المجلس التشريعي 
أم مجلس الشعب؟

نشر في 05-08-2009
آخر تحديث 05-08-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي يقاس تقدم الأمم بتقدم مجالسها التشريعية وقدرة هذه المجالس على سن القوانين التي تساعد المجتمع على تجنب مخاطر ما يجد من مستجدات. والمجلس النيابي أو البرلمان له مهمة واحدة هي تشريع القوانين نيابة عن الشعب، وفي كل بلدان العالم تكون أغلبية المشرعين من النواب من دارسي القانون، فلا يوجد في الكونغرس الأميركي أو البرلمان البريطاني مشرع واحد لم يدرس القانون، أما عندنا فالمجلس هو مجلس شعب أو مجلس أمة، أغلبيته من العمال والفلاحين ممن لا يعرف بعضهم حتى قوانين بلدهم، دعك عن قدرتهم على سن القوانين ومناقشة التشريعات الجديدة.

القانونيون عندنا يصبحون فاكهة المجلس ويوضعون في مصاف العظماء ذلك بقانون الندرة لا بقانون الأحقية، أما إذا نظرت إلى الكونغرس الأميركي أو البرلمان البريطاني لوجدت أن جميع أعضائه أو السواد الأعظم منهم بدرجة الدكتور فتحي سرور أو الدكتور مفيد شهاب، أي أن سرور وشهاب هما حالة عادية في مجالس الدنيا النيابية وليسا ظاهرة يُحتفى بها. هذا إذا كان المجلس النيابي تشريعيا، أما إذا تحدثنا عما ابتلينا به في العالم الثالث من مجالس الشعب ومجالس الأمة التي تفتخر بأن نصفها من العمال والفلاحين، فنحن نتحدث عن مجلس يهدف إلى الترويج للنظام القائم، مجلس بلدي أو شعبي، مؤسسة أنتجتها دولة ما بعد الاستعمار، الهدف منها هو بناء مؤسسات تحمل شكل الدولة الحديثة، أما المضمون فهو مضمون ترويجي إما للنظام الحاكم وإما لقبيلة البرلماني وإما لشخصه، لا علاقة لها بالتشريع من قريب أو من بعيد، وذلك ببساطة لأن معظم أعضاء مجالس الشعب والأمة عندنا لا يعرفون القانون ولم يدرسوه بشكل يقنع المواطن أنه أمام حالة مشرع لا حالة مهرج.

مجالس الشعب والأمة عندنا هي مجالس تطبيل وتزمير للنظام الحاكم أو لشخص العضو ووجاهته الاجتماعية، لذا تبقى دولنا متخلفة، في حين يكون الحكم في الدول المتقدمة هو القانون لا غيره. المتربصون ربما يمسكون بعبارة عمال وفلاحين وكأنها تعالٍ مني، وهذه تفاهة لا يجب الوقوف عندها لأننا جميعا أبناء عمال وفلاحين، ويستطيع الذين درسوا القانون من أبناء العمال والفلاحين تمثيل آبائهم ومصالحهم، أما أن نأتي بفلاح بسيط كي يصفق في المجلس فهذه هي الإهانة بعينها لمصالح الفلاحين والعمال.

أما عندنا فعضو مجلس الشعب يريد أن يكون له حصانة أو حصان، والحصانة في العالم المتقدم تهدف إلى شيء واحد لا غير، هو أن يتمتع المشرع داخل قاعة المجلس بحرية التعبير كاملة، أي لا يُقاضَى على ما يقوله داخل المجلس التشريعي حتى يشعر بكامل الحرية عند مناقشة القوانين والقضايا، أما عندنا فالهدف من الحصانة هو عكس ذلك تماما، الهدف هو استخدام الحصانة خارج المجلس لا داخله، أي أن الموضوع برمته يستخدم في عكس الغرض الذي وضع قانون الحصانة من أجله.

وبرلماناتنا، ككل أمورنا، نستخدم فيها الأشياء في غير أغراضها التي وضعت من أجلها، وكأننا مجتمعات سنت القوانين من أجل كسرها، مجتمعات تعتبر أن القفز على القانون من دون أن تدفع الثمن ينطوي على وجاهة اجتماعية، كأن تخالف مثلا قانون السير ويأخذ منك الشرطي رخصك ثم يأتي بها لك ابن عمك ذو «الواسطة» الكبرى وتصلك رخصتك إلى البيت بعد المخالفة بساعة ولا تسجل عليك مخالفة، هذا هو الهدف من القانون عندنا: التباهي بكسره.

الحصانة البرلمانية في البلدان المتخلفة هي حصان وليست حصانة، يستخدمها صاحبها أحيانا لنقل الممنوعات أو المتاجرة فيها، يستبيح بها أعراض الناس ويتفاخر بذلك بين أقرانه، إنها ملامح المجتمعات المريضة لا المتخلفة فقط. ومن هنا أقول إن البرلمانات تشبه مجتمعاتها، ففي المجتمع الذي تجوب شوارعه النظيفة «تاكسيات» نظيفة ستجد مجلسا تشريعيا نظيفا لسن القوانين، أما في المجتمعات العشوائية التي تنفث «تاكسياتها» روائح العوادم في الطرقات المزدحمة القذرة فسوف تجد برلمانات عشوائية. وهذا التوصيف ليس من عندي، فقد وصف الدكتور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المصري الأداء البرلماني لبعض نواب المجلس بالعشوائي، فعشوائية الشوارع وعشوائية الحياة لا تنتج مجالس تشريعية، إنما تنتج عشوائيات شعبية من العمال والفلاحين وغيرهم ممن لا يهتمون بالتشريع بقدر اهتمامهم بـ«الفشخرة» الاجتماعية وعلو الصوت.

في البرلمانات المتخلفة تجد آلاف الاستجوابات وطلبات الإحاطة التي يحقق من خلالها عضو البرلمان نجومية إعلامية، ثم تسأل وما النتيجة؟ وما القانون الذي صدر بعد كل هذه الاستجوابات وطلبات الإحاطة؟ النتيجة لا شيء، جعجعة ولا طحين، لذا فهي مجالس شعب ومجالس أمة لا برلمانات أو مجالس تشريعية.

لو كنا جادين في تطوير مجتمعاتنا لوجب أن نبدأ بحوار جاد حول تحويل مجالس الشعب والأمة ومجالس الترويج والتهييج من مجالس شعبوية إلى مجالس تشريعية، تتقدم دولنا فقط عندما تنتج مجالس تشريعية حقيقية مهمتها سن القوانين والتشريعات، أما إذا استمرت كمجالس شعب أو مجالس شغب، فلا أمل في التغيير، فالشكل لا يكفي لكي نقنع أنفسنا ونقنع العالم بأن لدينا مجالس تشريعية وهي في الحقيقة مجرد مجالس بلدية أو مجالس بلدي.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS 

back to top