القاهرة


نشر في 17-07-2009
آخر تحديث 17-07-2009 | 00:00
 محمد سليمان في القرى يعشقون القاهرة ويخشونها أيضاً، لأنها مقر الحكام وكبار رجال الدولة والثروة وأولياء الله الصالحين، لذلك يمنحونها وحدها اسم الدولة «مصر» ويسمونها المحروسة وأم الدنيا، ويتمنون عليك أن تذكرهم وتدعو لهم في مساجد حراسها الكبار السيدة زينب، والإمام الحسين، والسيدة نفيسة والإمام الشافعي وغيرهم، وفي القرى يحلمون بزيارتها أو الحياة فيها ويغنون لها.

«بكرة إن سعدني زماني لأسكنك يا مصر / وازرع جنينة ومن جوه الجنينة قصر / وألبس حرير شفتشي وأنام لحد العصر»

الانتقال إلى القاهرة كان في الخيال الريفي مكافأة وصعودا إلى الرخاء والرفاهية والنعمة، واقترابا من دوائر الضوء ومراكز النفوذ والثروة، وانفلاتا من كل أشكال الشقاء والمعاناة في الريف، وبسبب هذه الصورة الخيالية التي تشكلت على مدى قرون في الذاكرة، كان على القاهرة أن تواجه سيلاً من الهجاء والهجوم الذي شنه عليها الشعراء القادمون من القرى والأقاليم، والذين فوجئوا عندما انتقلوا إليها بالزحام واللامبالاة وبغابات الحوائط وخشونة واقع المدينة وقسوته.

«حين التصقت بها

كانت تراني حشرة

أتت من بعيد كي تشد بعض مائها ونورها

أنا الذي تركت عند سورها صبايا

ودودة الحرير والموال والوصايا

وقلت لم أعد غلاماً

يلف رأسه بترعةٍ

ولم يعد يليق بي ثوبي

ولا صعود النخل، والنعاس مثل حائطٍ

والاحتماء بالظلال والزوايا

أنا الكبيرُ في المدينة الكبيرة»

في المدن الكبرى تتوالد المتاهات ويتضاءل وجود الإنسان، ويتحول أحياناً إلى مجرد رقم أو شبح لا يستوقف الآخرين أو يقتحم عالمهم، لذلك برز الاغتراب كأحد محاور شعرنا الحديث في نصف القرن الأخير وصار باباً يدخل منه القارئ إلى عوالم شعرية مختلفة لشعراء من كل الأجيال، والتيارات الفنية زلزلتهم الأسوار وغابات الحوائط والهوة بين المدينة الجنة التي حلموا بها والمدينة الجحيم التي أحاطت بهم وهمَّشت وجودهم وأجبرتهم على الانزواء والاعتراف بضعفهم وهشاشة وجودهم، لذلك شغلت المدينة معظم الشعراء بدءاً من صلاح عبدالصبور الذي شكل الاغتراب محور تجربته الشعرية، وأحمد عبدالمعطي حجازي الذي منحه الانتقال إلى القاهرة في الخمسينيات وغوصه في متاهاتها أحد أجمل دواوينه وهو «مدينة بلا قلب»، إلى شعراء الستينيات والسبعينيات وما بعدهم، وإلى اغتراب آخر أشمل وأعمق لم يعد الانتقال إلى المدينة وحده محوراً له، فقد عايش هؤلاء الشعراء ورصدوا في العقود الأخيرة بدايات التحول والتشظي العام واغتراب المجتمع عن ذاته وعصره وتخبطه وانقساماته، ومن ثم تحولت علاقته بالمدينة إلى علاقة جدلية، وتراجعت قصائد البكاء والهجاء المباشر وقصف حوائط الحديد والأسمنت والزجاج وبرز الحديث عن حوائط أخرى أخطر وأشرس لا مرئية، ومن ثم طفت صور أخرى للقاهرة في قصائد الشعراء المصريين والعرب تنشغل بالمدينة ورحلتها في التاريخ وببعض ملامحها المتوارية أو المنسية، فيقول الشاعر العراقي سعدي يوسف في إحدى قصائده:

«ونأتي القاهرة

مثلما نأتي إلى جدتنا بعد طواف خائب

أيتها الجدة

كم أرهقنا العالمُ

يا أيتها الجدة ضمينا إلى أحفادك المنتظرين»

قبل عقود كانت القاهرة مدينة أخرى أصغر حجماً وأقل جهامة وازدحاماً ومسكونة ببشر وديعين وبسطاء يطلون علينا أحياناً من أفلام الخمسينيات والستينيات، بشر عايشتهم في صباي قادرين على العطاء ومسلحين، خصوصاً في الأحياء الشعبية، بحس إنساني فريد قلَّص أثر وصدمة انتقالي من القرية إلى القاهرة في منتصف الستينيات، كنت في السابعة عشرة من عمري في ذلك الوقت، وكان أهالي الأحياء الشعبية يعتبرون أنفسهم أوصياء مسؤولين عن الغريب والوافد والطالب الريفي، ومازلت أتذكر صاحب المنزل الذي أقمت على سطحه في حي السيدة زينب وكان شيخاً أميّاً، وهو يستوقفني في الشارع بين وقت وآخر لكي يهددني قائلاً: «لا أسمع في الليل قراءة في الكراريس وأسمعك فقط تغني وتلعب، ولكي أريح ضميري سوف أسافر إلى قريتكم لكي أقول لوالدك المسكين وفر فلوسك ابنك مش مقدر تعبك...». توارت قاهرة الستينيات بقيّمها وعادات سكانها ويسر الحياة فيها... وبرزت مدينة أخرى عجوز وبدينة ومتوحشة، لكنها قادرة، «كالنداهة» في تراثنا الشعبي، على الإغواء والخداع.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top