صحافة ولدت ميتة

نشر في 05-08-2009
آخر تحديث 05-08-2009 | 00:00
 بلال خبيز في وسع المرء أن يسأل نفسه اليوم أسئلة ساذجة، من قبيل: من الذي جنى على الصحافة في لبنان وجعل الصحافيين يطلقون الصرخة تلو الأخرى؟ رجال السياسة؟ رجال المخابرات؟ أم رجال الصحافة أنفسهم؟ قد يكون دم صحافة الرأي مشتركاً بين هذه القبائل، لكن المرء لا يسأل صاحب السلطة عن إضعاف سلطة منافسه، ولا يسأل رجل المخابرات عن مسؤوليته في تصفية دور نقيضه المباشر.

في لبنان يشكو الصحافيون من تردي وضع الصحافة. بين المشتكين من كان هو نفسه سبباً من أسباب ترديها، ليس اليوم يوم شماتة، خصوصاً أن الفقيد أو الذي يوشك أن يصبح فقيداً لأسباب تتعدى مفاعيل الوضع اللبناني هو صحافة الرأي نفسها، أي تلك الصحافة التي تعيد وصل الشأن العام المحلي بالشؤون العامة الدولية والإقليمية وتجعل من إمكان الحديث عن صلة مع معاصرة ما لمجتمع من المجتمعات ممكناً.

مفهوم أن يشكو صحافيو لبنان من الصمت والكتمان الذي يمارسه السياسيون. فهؤلاء، أي الصحافيين، تخلوا عن آداب وأخلاق مهنتهم ورذلوها سعياً نحو ما يسمى بصحافة التسريبات. (البعض يقول عنها صحافة معلومات لكن المعلومات نادراً ما كانت صحيحة). النتيجة كانت أن أسلس الصحافيون قيادهم بالجملة للسياسيين ورجال الأمن، وحين وجد هؤلاء أن الصحافة، مثلما كانت دائماً بالنسبة للسياسيين: مهنة فائضة عن الحاجة، قرروا ترك الصحافة تواجه مصيرها المحتوم: شح في المعلومات ورقة حاشية في التحليل.

الصحافيون أنفسهم حاربوا كتّاب الرأي ولاحقوهم من مكان إلى آخر، بعضهم نُفي وبعضهم قُتل وبعضهم مُنع من الكتابة، وبعضهم يحاصَر بألف قيد وقيد. وشاعت في بلاد الأرز وثورتها تعريفات للمهنة من قبيل: الحيادية في نقل الخبر والدقة في المعلومات، لكننا نعرف أن الخبر لم يكن ولن يكون أبداً حيادياً وأن الدقة هي الشيء الوحيد الذي لا تستطيع الصحافة ادعاءه. الدقة: ما الذي يعنيه بها أهلها؟ أهي الدقة التي تجعل نتيجة الحرب التي شنت على لبنان انتصاراً؟ أم هي الدقة التي تجعل صباحات وليد جنبلاط يسارية هذه الأيام؟ لقد رأى في ما يرى النائم كارل ماركس واستيقظ متذكراً ما كان يجدر به ألا ينساه، أما حديث الحياد فحدث ولا حرج. كيف يكون الخبر محايداً حين تصدر مانشيتات الصحف في لبنان متهمة بعض قادة البلاد بالعمالة لإسرائيل؟ وكيف يكون الصحافي محايداً حين يهدد، هو الذي يفترض به ألا يملك سلاحاً غير قلمه، زعيم ميليشيا سابقة من وزن وليد جنبلاط. مفهوم! هو لا يهدد وليد جنبلاط بسلاحه، بل بسلاح ميليشيا آخرى طبعاً. لكنه مع ذلك يصر على حياديته وعلى دقته في نقل المعلومات.

مع ذلك، لم ييأس صحافيو الحياد والدقة، ولم يعد ثمة دقة في معلومات الصحافيين المحليين، فلنفتش عن الدقة في «دير شبيغل»، أو في مكتب «الحياة» في نيويورك. هناك مازال للدقة اعتبار! لكن ما لا يريد الصحافيون المحايدون والدقيقون استعادته هو بالضبط صحافة الرأي. صحافة الرأي التي يفترض أنها تعيد إنتاج المعاني العامة في أي مجتمع، وتعيد ترتيب الأولويات.

هذا لا يحصل في لبنان فقط، بل على الأرجح في طول العالم العربي وعرضه. الرأي هو أول الضحايا، والرأي هو الفائض عن الحاجة، حتى إذا ما استقرت القوى السياسية على تسويات، وجد كتاب الدقة والحياد أنفسهم خارج اللعبة.

في وسع المرء أن يسأل نفسه اليوم أسئلة ساذجة، من قبيل: من الذي جنى على الصحافة في لبنان وجعل الصحافيين يطلقون الصرخة تلو الأخرى؟ رجال السياسة؟ رجال المخابرات؟ أم رجال الصحافة أنفسهم؟ قد يكون دم صحافة الرأي مشتركاً بين هذه القبائل، لكن المرء لا يسأل صاحب السلطة عن إضعاف سلطة منافسه، ولا يسأل رجل المخابرات عن مسؤوليته في تصفية دور نقيضه المباشر، النشر والإعلام والإعلان في مواجهة التقارير السرية والصمت والكتمان. لكن نجاة أهل الصحافة من الإجابة عن هذا السؤال الساذج لا تبدو ممكنة في مستقبل الأيام. المهم ألا يمر الزمن على جريمة قتل الرأي، فيموت الرأي الذي يحتضر، ويخرج من لدن الصحافة من يقول الحي أبقى من الميت، فالرأي حتى لو كان محتضراً يبقى حياً لكن صحافة التسريبات لا يمكن وصفها بأي صفة غير أنها ولدت ميتة.

* كاتب لبناني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top