حروب القوقاز أو مستقبل روسيا

نشر في 17-08-2008
آخر تحديث 17-08-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد قرار بوتين شن الحرب على جورجيا ومهاجمتها من الغرب والشمال صار مفهوما إلى حد كبير، بل ويحظى بنوع من التعاطف أو على الأقل الفهم المضمر بين المراقبين الغربيين ذوي التوجه الليبرالي والواقعي. القرار يدفع عن روسيا شعورا عميقا بالإهانة بعد إقدام الغرب على مد حلف الأطلنطي إلى الحدود الروسية مباشرة وتفكيك يوغوسلافيا وفرض استقلال كوسوفا وهزيمة القومية الصربية السلافية ومعاملة روسيا معاملة خشنة للغاية.

فبعد التنازلات كلها التي قدمتها روسيا بما في ذلك تفكيك منطقة النفوذ الواسعة والمحيطة بها مباشرة في ما أسمي بالاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، فالغرب -وبالذات الولايات المتحدة- لم تتعامل معها كدولة صديقة. بل إن حلف الأطلنطي (الناتو) وُظِّف لفرض حصار جغرافي واستراتيجي صارم للغاية، بل يكاد يتفوق في شدته على سياسة الاحتواء التي كان دالاس قد فرضها على الاتحاد السوفييتي منذ بداية الخمسينيات من القرن العشرين.

فالأطلنطي يسعى الى ضم أوكرانيا، وهي اقرب الثقافات لروسيا وجورجيا، وهي أضعف نقطة في الدفاعات الاستراتيجية الروسية، ثم انه بدأ بالفعل في تطبيق برنامج الدفاع الصاروخي الذي يستهدف تجاوز مفهوم الردع المتبادل وجعل روسيا مكشوفة أمام ضربات نووية من الغرب من دون رد مقابل. بل ان الغرب، وخصوصا بدفاعه عن استقلال الشيشان ثم بحديثه عن ضم جورجيا الى الناتو بدأ عملية أوسع وأطول مدى لتفكيك روسيا ذاتها. ولو أن بوتين أهمل الرد على القرار المتسرع وسيئ التقدير والتوقيت لجورجيا بمهاجمة أوسيتيا الجنوبية، لكان قد فقد شعبيته وربما مهد لإقالته واستبداله، بل ولتغيير التركيبة السياسية في روسيا بزيادة نفوذ القوميين الروس على الأقل في القوات المسلحة وتعريض بلاده لعدم استقرار سياسي ممتد وخطير. وفضلا عن ذلك فقرار بوتين كان «دفاعيا» بمعنى أنه جاء كرد فعل على قرار الرئيس الجورجي إعادة اخضاع أوسيتيا الجنوبية لبلاده بالقوة وباستخدام قدر غير مقبول من الشدة أو القسوة في معاملة الاقليم ذي الأغلبية الثقافية الروسية. وكانت روسيا قد التزمت فقط بحماية الإقليم وسكانه من دون مساندة الميول الانفصالية فيه صراحة، وبرر سكاشفيللي سوء تقديره للأمور واعتقاده أنه سيلقى حماية ودعما غربيا سريعا بأنه تعرض لكمين روسي! وهو تبرير ساذج وغير عقلاني.

غير أنه لا يمكن تقدير قرار بوتين تقديرا سليما إلا في سياق سياساته الشاملة تجاه القوقاز أو في الواقع تجاه مستقبل روسيا ككل. واعتقادي الشخصي أن هذه السياسة مرتبكة أو ملتبسة في أفضل الأحوال وربما تكون ضارة أو بالغة الضرر بمستقبل الاستراتيجية الكونية والإقليمية لروسيا. ويتضح هذا الاستنتاج بمناقشة هذه السياسة من الزاوية الجغرافية السياسية ومن زاوية أخرى، وهي استراتيجيات إعادة بناء الدولة وصورة روسيا في العالم.

* الطريق إلى إعادة بناء النفوذ

فروسيا لن تستطيع أبدا أن تعود إلى الساحة الدولية كقوة عظمى من دون أن يكون لها نفوذ في المحيط الجغرافي السياسي المباشر لها. والسؤال هو كيف يمكنها أن تستعيد هذا النفوذ على المدى الطويل.

الحقيقة أن بوتين لم يقدم إجابة مقنعة لهذا السؤال، وهو بالتالي وقع أسيرا للغموض. وببساطة يمكن القول إنه ترك الحبل على الغارب للجمهوريات السوفييتية السابقة في أن تفعل ما تشاء بما في ذلك أن تتحالف صراحة مع الغرب أو تمنح الأميركيين قواعد عسكرية. وما إن تبالغ قليلا في إهانة روسيا أو الإضرار بها حتى يستخدم معها سياسات القوة أو الابتزاز الاقتصادي أو العسكري. ومثل هذه السياسة الملتبسة أو المرتبكة تقود بالضرورة الى أسوأ النتائج على المدى البعيد.

ويعود ذلك إلى أنها تجمع بين سوءات ستالين ويلتسين معا في السياسات الخارجية عموما وفي المحيط الجغرافي السياسي المباشر لروسيا في الوقت نفسه. إذ قامت سياسات ستالين على الضم والإلحاق بالقوة وتفويض روسيا حق التدخل العسكري في الخارج من دون تقيد بقانون أو اعتبار سياسي أو أخلاقي منهجي. أما سياسات يلتسين فقامت على العكس تماما. يلتسين هو الذي فكك الاتحاد السوفييتي بعد أن قام غورباتشوف بتفكيك وإنهاء النفوذ الروسي في أوروبا الشرقية. سياسات غورباتشوف بدت مقبولة من زاوية أنها تصحح الأخطاء التي ارتكبها ستالين وبدت وكأنها تقوم على معيار أخلاقي جديد يقول لأوروبا الشرقية إن روسيا لن ترغم شعبا على اتباع نظام سياسي أو اجتماعي لا يريده ولا أن تخضعه بالقوة للنفوذ أو السلطة السوفييتية.

أما يلتسين فكانت رسالته أن روسيا لا تريد نفوذا في أي دولة ولا حتى قبولا من الشعوب الأخرى المحيطة. وكان يقول عمليا إنه يعتبر نفوذ روسيا في هذه الدول عبئا عليها وليس مصلحة مؤكدة لها. بل وبدا أن يلتسين شجع القوميات السوفييتية جميعها على الاستقلال ولو كانت غير مستعدة له، بل ودفعها دفعا إلى الارتباط بالغرب والأطلنطي أو أميركا تحديدا ولو كان ذلك ضد مصالحها المباشرة!

وواصل بوتين تلك السياسة نفسها بوجه عام حتى أنه شجع أوزبكستان وأذربيجان على منح قواعد عسكرية للأميركيين ومكن الجمهوريات السوفييتية السابقة جميعها من الارتباط العسكري بشكل أو آخر مع أميركا! وبدا لسنوات طويلة وكأنه يراهن على أن تقيم روسيا علاقة مباشرة، بل أن تنضم هي ذاتها الى حلف الأطلنطي. ولم يستيقظ بوتين إلا عندما رفض الأميركيون مبادرته للانضمام الى الأطلنطي بما يجعله أداة عملية للأمن العالمي بدلا من أن يكون أداة للنفوذ الغربي أو الهيمنة الأميركية على العالم.

وبعد أن استيقظ على استمرار الغرب عبر الأطلنطي في حصار روسيا، بدأ في اتباع سياسات خشنة للغاية مع أقرب الشعوب له على الاطلاق، وخصوصا أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا. وبينما أحيت هذه السياسات المخاوف من الدب الروسي في هذه الدول، فهي لم تنه رغباتها المحمومة في الانضمام إلى الغرب. وبذلك أوقعت هذه الدول في الالتباس نفسه الذي وقعت فيه روسيا. وما أسماه سكاشفيللي بالكمين لم يكن سوى التباس وغموض، وإن قاد للنتيجة نفسها. ومن المعتقد أن حرب بوتين ضد جورجيا لن تنهي هذا الالتباس. فهو لا يريد أن يواصل المسيرة كلها ويسقط حكم سكاشفيللي المعادي لروسيا، وفي الوقت نفسه لن يعيد أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا إلى جورجيا، وهو ما يعني أنه لا يملك حلا لجورجيا ولا لأبخازيا وأوسيتيا، وانما يبقى الخوف، بل والالتباس والغموض ذاته في الوقاز ككل من دون تصور إيجابي على المدى الطويل.

* خيارات إعادة البناء

لا شك أن تردد بوتين ورسالته المتناقضة والملتسبة للقوقاز والعالم لهما أسبابهما. فهو لم يحدث قطيعة مع فسلفة يلتسين ولم يحيِّ في الوقت نفسه فلسفة ستالين على ما بين الرجلين والفلسفتين من مسافة شاسعة. والسبب الأساسي لا يعود الى شخصه وإنما الى المدى الذي حقق فيه هدف إحياء الدولة الروسية ذاتها. فقد تحسن الوضع الاقتصادي وبدأ نوع ما من النظام العام يعود إلى روسيا تدريجيا. ولكن الفضل في ذلك يُعزى إلى أسعار النفط والمواد الأولية التي تصدرها روسيا ومكنتها من جمع 100 مليار دولار في الاحتياطيات الدولية ومن دفع ثم تحسين مرتبات الجيش وموظفي الدولة الآخرين.

وكان من الأحرى به أن يبدأ عملية إصلاح حقيقية للاقتصاد الروسي وأن يطرح على الشعب والمجتمع سياسات لها مصداقية على المدى الطويل. ولأنه لم يفعل واكتفى إلى حد كبير بالاعتماد على الصادرات، فلايزال أمام روسيا مسار طويل جدا لإنهاء الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعيشها ومسار أطول لاستعادة شعور الروس بذاتهم وكرامتهم الوطنية من دون حاجة إلى استعراض العضلات في الخارج، وخصوصا ضد الشعوب السوفييتية السابقة.

إذ كان من الأفضل لبوتين أن يوضح للشعوب السوفييتية السابقة كافة وللغرب أيضا أن بلاده لن تتسامح مع سياسات خارجية تضر أمن ومصالح روسيا الاستراتيجية. وكان من الأفضل لبوتين أيضا أن ينعش الروابط مع هذه الشعوب والدول بإحياء ومنح دور حقيقي للكومنولث الذي أسسته روسيا بديلا للاتحاد السوفييتي. وكان بوتين يستطيع حتى في ظروف الانهيار الاقتصادي الروسي أن يتصرف مع أغلب هذه الشعوب والدول بقدر معقول من الكرم لكسبها إلى مصلحة روسيا على المدى الطويل بدلا من إغضابها وتخويفها وإثارة كراهيتها. وبذلك كان يمكنه أن يخط فلسفة جديدة لروسيا تقوم على الوضوح الاستراتيجي والبناء المشترك لشبكة مصالح حقيقية ومتبادلة مع منظومة الدول السوفييتية السابقة.

وأعتقد ان بوتين وروسيا خسرا هذه الفرصة بحربهما ضد جورجيا هذا فضلا عن إمداد اليمين الأميركي المتطرف ممثلا في شخصية مثل تشيني على اتباع مزيد من السياسات العدوانية في الخارج.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top