حكواتي رمضان... انتهى أمام غزو التلفزيون!! جاسم الغيث: الجالسون لدى الحكواتي يُكبِّرون ويُهلِّلون ويُمثِّلون أحياناً ظاهرة مسرحيَّة... أفل نجمها في الكويت!

نشر في 05-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 05-09-2008 | 00:00

الحكواتي قصّاص شعبي يتخذ مكانه على سدّة عالية في صدر المقهى. والاستماع للحكواتي عادة قديمة، فيجتمع في المقهى عدد من الناس، يختلف بحسب نوع القصة وشهرتها وجودة القصّاص أيضاً. ومن تلك القصص: عنترة بن شداد والزير سالم. وهي روايات حماسية تمثل الشجاعة والكرم والحميّة والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمم ورعاية الذمار والجار. إلى آخر ما هنالك من المكارم التي ينسبونها إلى أبطال الرواية، ويجعلون النصر لهم والدائرة على مناوئيهم، ويصفونهم بالجبن والكذب والبخل والرياء والغدر والخيانة والنكث بالعهد، إلى آخر ما هنالك من المفاسد.

وتقدّم تلك الروايات على أقسام، كل يوم قسم. ويتوقف الحكواتي عادة في موقف حرج من الرواية، مما يربط المستمع ويشدّه في اليوم التالي لمتابعة ما حدث للبطل. الحكواتي شخصية شعبية يتذكرها الجميع في بلاد الشام ومصر والكويت والمغرب العربي، ويتذكرون معها زمناً جميلاً أكثر يسراً وراحة بال من زمننا هذا الذي أصبح فيه التلفزيون او «العلبة العجيبة»، بمثابة حكواتي آلي يغزو البيوت والمقاهي والمحال، وشكل بديلا صاعقا عن حكواتي الحنين والفروسية. لا يتفاعل المتلقي مع التلفزيون الا وفقاً لما يقدمه له من مادة كلامية صوتاً وصورة. فيما الحكواتي الانسان الذي كان يحتشد حوله الناس في المقاهي قديماً، كان لا يكتفي بسرد احداث القصة بتفاعل دائم مع جمهوره، بل يدفعه الحماس لأن يجسد دور الشخصية التي يحكي عنها بالحركة والصوت. وما يميز حكواتي الأمس أيضاً تلك النفحة من القيم والفضائل التي كانت تتسم بها شخصيات رواياته، وكانت تغذي نفوس المتلقين وعقولهم، على عكس ما تضخه في أيامنا هذه المحطات الفضائية ومقاهي الانترنت من عادات غريبة ومنفّرة.

اين اصبحت ظاهرة الحكواتي الذي كان علامة من علامات شهر رمضان المبارك، بل علامة مع علامات المقاهي القديمة؟

يشكّل «الحكواتي»، أو كما يُعرف في الكويت قديماً بـ «المسولفجي»، ظاهرة من الظواهر المسرحية عند العرب، ووسيلة للفرجة والمتعة والتسلية. أدت هذه الظاهرة دوراً مهماً في استثارة الهمم والعزائم واستخلاص العبر والحكم والدروس، نظراً إلى السير والبطولات الملحمية التي تتناولها.

من الظواهر التي اندثرت في شهر رمضان الفضيل في الكويت «الحكواتي» أو «المسولفجي» الذي كان يتبوأ مكاناً في صدر المقهى، ويحكي أهم السير والملاحم الشعبية مستخدماً أدوات التمثيل بصورة جعلته يُعرف بهذا المصطلح بدلاً من القصّاص.

يتحدث الباحث في الفنون المسرحية ومعدّ البرامج التلفزيونية والإذاعية الناقد جاسم الغيث عن «الحكواتي» وظهوره لدى العرب خصوصاً في شهر رمضان ويقول: «تعتبر ليالي رمضان مميزة لدى المسلمين، يمتد فيها الوقت ويسهر الناس بعد يوم كامل من الصيام، يتقاربون ويزورون بعضهم بعضاً في الملتقيات. كان للمجتمع العربي عموماً مفهوم خاص للمقهى الذي كان يضم المثقفين والتجار وعامة الناس والساسة، لذا اعتُبر ملتقى مناسبًا بعد الإفطار. من أبرز سمات هذه الليالي عنصر الفرجة، لم يكن هذا الأخير يحكم المجتمع أو يتمتع بطقوس خاصة على غرار الثقافة اليونانية وبعدها الثقافة الرومانية ومن ثم أوروبا، بل جاء عبارة عن مجموعة من الظواهر والأشكال الممتعة التي تقدَّم بصورة منفردة وأمام جمهور بسيط يشارك في الظاهرة المسرحية، من أبرزها الحكواتي أو القصاص الشعبي، وهو من الشخصيات التي تقوم بأداء تمثيلي يعكس روح الشعب وخيالاته ومتطلباته الاجتماعية، وتختار دائماً أماكن السهر حيث اللهفة إلى التسلية والاستماع بعيداً عن متاعب الحياة، من هنا بدأت أهمية هذه الشخصية».

ظهور الحكواتي

يفصِّل الغيث الأسباب التي أدت إلى ظهور الحكواتي بالقول: «هناك قضية مهمة أدت إلى وجود الحكواتي في المقاهي، أولاً لا يحتاج هذا الرجل إلى مساحة خشبة مسرحية أو مكان كبير يتحرك من خلاله، بل يستطيع أداء مهامه ودوره في أماكن تكاد تكون صغيرة ومحدودة، ثانياً ثقافة الأذن وثقافة العين، فالمجتمعات التي كان يقدم فيها هذا النوع، هي مجتمعات «أمية»، اقتصرت ثقافة العين فيها على المشاهدة فحسب، من دون القراءة والاطلاع على المراجع وقضاء الوقت في المكتبات لقراءة القصص والروايات التي تزخر بالعبر والثقافات المختلفة والمتعة والتسلية، لذا جسّد الحكواتي دور الوسيط التلفزيوني أو العرض الفني أو المتعة التي تقوم على الفرجة، فيقدم مادته التي يستقيها بكل أمانة وعناية من سير الأبطال الملحميين ليعلّم المجتمع الدروس والعبر التي تقوّي الروح المعنوية والهمم وأواصر الترابط والمُثل العليا. إذن كان الحكواتي أميناً في اختياره لمثل هذه المواد التي تقوم بدور التعليم لأناس بسطاء».

مهارات خاصّة

يضيف الغيث: «يمتلك الحكواتي مهارات وفنوناً لا يملكها إلا الممثّل المحترف، إضافة إلى الخيال الواسع والقدرة على التجسيد والفهم الدقيق والقراءة والتأويل والتفسير للقصص، وعدم روايتها وقراءتها بشكل مباشر، بل يضيف إليها ويفسر ويعطي الكثير من الدلالات، من خلال أدائه والتلوين في الصوت والتحضيرات، فهو يعيد في كل عرض صناعة البطولات الملحمية من جديد، ويقدم النص مرة أخرى ويعيد إنتاج المعنى في النص الملحمي نفسه، ويمكنه استثارة همم الموجودين وجذب انتباههم وهم يحتسون الشاي أوالقهوة أو الأعشاب وإيقاف أي حوار جانبي. يلتفت جميع الحاضرين إلى الحكواتي، وهو يستعين بالأدوات التي تحمل مضامين ودلالات، منها الدروع والسيوف وبعض الكتب في تجسيد الموقف نفسه، مثلاً عندما يتحدث عن ملحمة لسيف بن ذي يزن أو عنترة بن شداد، يصدر أثناء دخوله المعركة الأصوات ويرفع السلاح ليعطي أجواء الحدث، وإذا تحدث عن قصص ومآسٍ، يعطي الجانب النفساني والحزين من خلال الصوت. كانت القضايا التي يطرحها مهمة بالنسبة إلى المجتمع، لا سيما تلك التي تقترب أحداثها من التاريخ الذي تمر به المجتمعات، أي الحروب وبطولات بعض الشخصيات المعروفة لدى الجمهور، ليعزز فيهم الهمم ويثير الروح الحماسية والوطنية تجاه وطنه.»

المحاكاة والتجسيد

يشير الغيث إلى أن دارسي المسرح أرادوا تسمية الحكواتي بدلاً من القصّاص، على اعتبار أن الحكواتي كلمة قريبة من المحاكاة والتجسيد وهي جزء مهم في عملية تجسيد البناء والتمثيل.

يتابع: «يقدم الحكواتي أبطالاً ملحميين غير عاديين، تشعره طبيعة الإنسان تجاه البطل الذي يقترب منه، بكثير من الواقعية والنقد، أي أنه ينتقد بعض قضاياه وتصرفاته ومواقفه، إنما الشخصيات الملحمية والبطولية فهي ترتفع عن مستوى البشر، وكما يسميها الدكتور أحمد أبو زيد في مقالته «الملاحم» : «البطل الملحمي أو الأسطوري هو نصف بشر ونصف إله». يقترب من الصفات البعيدة عن البشر، لذلك يشعر الإنسان بنوع من الهالة، ويرتفع بهذه الشخصية التي تتمتع بالرجولة والبطولة والعدالة والشرف والقتال ومساعدة الضعيف، ومنها شخصيات عرفت في التاريخ بهذه الأخلاق، مثل عنترة بن شداد الذي قال في بيت شعر معروف له:

«وأغض طرفي إن بدت لي جارتي..... حتى يواري جارتي مأواها»

يؤكد الغيث أن «المجتمع الذي لا يمتلك التجمعات الكبيرة، سواء عبر الطقوس الدينية أو الاجتماعية، يشعر أن هذه الأشكال والظواهر المسرحية تغذي في نفس المتلقي الرؤية البصرية التي يحتاجها، بل وأن الكثير ممن يجلسون أمام الحكواتي يقومون بالتمثيل والتكبير والتهليل وبأداء بعض الأناشيد، وبما أن طبيعة الإنسان العربي انفعالية وحماسية، شكلت هذه الظاهرة إلى فترة قريبة محل احترام وتقدير لقدرتها على تنمية هذه الطبيعة الإنسانية لدى المتلقي».

يشير الغيث إلى أنه «في مجتمعاتنا قديماً كانت الظواهر المسرحية عند العرب ومن بينها الحكواتي وسيلة الفرجة والمتعة والتسلية، وكان الحكواتي يتناول ملاحم سيف بن ذي يزن وعنترة بن شداد وأحياناً قصصًا وروايات قريبة من ثقافة البلد نفسها، لبعض القرى قصصها الخاصة بها وأبطالها، إضافة إلى قصص هارون الرشيد وألف ليلة وليلة، التي يؤخذ منها الكثير، والتراث الإسلامي عمومًا، ولم يكن يلتزم الحكواتي بالقصص العامة فله الحق في أن يضيف ويبتكر».

«المسولفجي» قديماً

أما المؤرخ ومعدّ البرامج ومقدمها أحمد محارب الظفيري فيؤكد عدم وجود وثائق أو كتب تؤرخ للحكواتي في الكويت، ويشير وفق المعلومات المتوافرة لديه إلى وجود هذه الشخصية أو الحكواتي في البلاد قديماً بقوله: «كان موجوداً سواء في الحاضرة أو عند البدو من أهل الكويت وكذلك عند أهل نجد في المملكة العربية السعودية، حيث يُعرف باسم «المسولفجي» أي الحكواتي الذي يتناول السير والملاحم البطولية في المقاهي».

يضيف الظفيري: «عند البدو كان يتم التطرق إلى تلك الملاحم والبطولات على شكل قصائد تحكي سيرة بني هلال مثلاً».

يتابع: «كان الحكواتي يقدم «سوالفه» في قهوة بوناشي - الواقعة أمام مسجد السوق ومقابل سوق المناخ- في شهر رمضان، وفي مقاه وراء السور أيضاً، حيث يجتمع الشيوخ وكبارالتجار وعامة الناس، ويتناول السيرة الهلالية خصوصاً أبو زيد الهلالي وذياب بن غانم، وسيرة عنترة بن شداد، وغيرها من السير التي توارثتها الأجيال».

كذلك يشير إلى أنه «من حسن الحظ أن ابن خلدون ذكر في مقدمته أحد عشر نصاً عبارة عن قصائد لبني هلال وأشخاصه الحقيقيين الشهيرين ممن يستفيض ذكرهم في تغريبة بني هلال».

يختتم الظفيري حديثه بالقول أن {الحكواتي في الكويت انتهى عندما تغيرت الحياة عما كانت عليه قديماً وشهدت تطوراً هائلاً.

back to top