بوتين يدير آلة حرب

نشر في 04-07-2019
آخر تحديث 04-07-2019 | 00:00
 الغارديان بوتين في أفضل أحواله، فبعدما طُرد من مجموعة الدول الثماني في عام 2014 حين بدأ عملياته العسكرية في أوكرانيا، ها هو اليوم يستغل إلى أقصى حد قمة مجموعة الدول العشرين في أوساكا ليتنعم بلقاءات مع كبار شخصيات العالم، يستقطب أكبر قدر ممكن من الاهتمام من وسائل الإعلام الدولية، ويضيف إلى كل ذلك مقابلة خالية من التحديات مع صحيفة "فايننشال تايمز".

بما أن بوتين الانتهازي الدائم، يقبل بما يُقدَّم له، يسير بسلاسة، ويضحك ساخراً، يراقبنا بفرح ونحن نستشيط غضباً بسبب استفزازاته التي يقوم هدفها الأول على إبقائنا متوترين واستغلال انقساماتنا.

حان اليوم وقت الاستعراض الدولي بالنسبة إلى بوتين، فلم يكترث كثيرون خارج روسيا ببرنامج الخط المباشر التلفزيوني السنوي الذي قدّمه قبل أيام على امتداد أربع ساعات، لكني شاهدتُ جزءاً منه، وما لفت انتباهي كان واقع أن بوتين بدأ يتقدم في السن وأنه يخصص مقداراً كبيراً من مساعي العلاقات العامة لمحاولة تبديد موجة من التوترات الداخلية.

أخبرني أصدقائي الروس أن الوضع في بلدهم "شبيه بما كان عليه عام 2010 حين بدأت الاضطرابات" التي سبقت انطلاق التظاهرات في الشوارع طوال العامين التاليين. لا يحقق اقتصاد روسيا اليوم أداء ممتازاً، كذلك يُعتبر قرار بوتين إطلاق سراح الصحافي الاستقصائي إيفان غولونوف ورضوخه لرغبة المتظاهرين المحليين في يكاترينبورغ في الخلاف الأخير بشأن بناء كاتدرائية تطورين غير متوقعين، ولا شك أنهما لا يسِمان نهاية القمع السياسي، إلا أنهما خطواتان تبدوان أقرب إلى محاولة للإشارة إلى طريقة تعامل ألطف.

ويمكننا إدراج تعليق بوتين لصحيفة "فايننشال تايمز" عن أن الليبرالية باتت "قديمة الطراز" في هذه الخانة، ولا ننسى أنه قال العكس قبل بضع سنوات، مؤكداً: "أنا ليبرالي"، فلا قيمة للكلمات التي تُلقى بهذه الطريقة، فهي أشبه بقنابل صغيرة أو كريهة الرائحة هدفها تعميق شكوكنا الذاتية، وقلقنا، وخلافاتنا.

عندما ينقشع الضباب، ماذا يتبقى في الواقع؟ إحساس روسيا بحصانتها، أقصد حصانة قاتل مجرم حرب. لنتأمل هذه المسألة: في نهاية هذه السنة، تكون روسيا، سواء السوفياتية أو ما بعد الاتحاد السوفياتي، في حالة حرب بشكل شبه متواصل منذ أربعة عقود. من المليون مدني الذين قُتلوا في الحرب السوفياتية في أفغانستان (1979-1989) إلى مئات آلاف السوريين الذين هلكوا تحت نيران آلة حرب روسيا والأسد، تطول سلسلة التفلت من العقاب، ولنتأمل لائحة الحروب الروسية: ترانسنيستريا (1992)، أبخازيا (1992-1993)، الشيشان (1994-1996 و1999-2009)، جورجيا (2008)، أوكرانيا (منذ عام 2014)، وسورية (منذ عام 2015). وصل بوتين بحد ذاته إلى السلطة في أعقاب حرب (في الشيشان) شهدتُ فظائعها شخصياً عندما كنت مراسلاً، نلاحظ استمرارية بين تعمُّد استهداف الطائرات الحربية الروسية في سورية المستشفيات، والمدارس، والمناطق السكنية وما حدث في الشيشان، ولا يمكننا أن نفهم نظام بوتين، أو نظرته إلى العالم، أو كيفية صوغه المجتمع الروسي من دون أن نأخذ هذه الروابط في الاعتبار. الأسبوع الماضي، سلّط تحقيق تقوده هولندا بشأن سقوط الرحلة "إم إتش 17" عام 2014 الضوء على تفصيل مهم: شارك أحد الرجال الروس المتهمين، إيغور غيركن، وهو مسؤول استخباراتي عسكري سابق، شخصياً في عدد من الحروب المذكورة أعلاه. ففي الشيشان، تورط غيركن في فظائع جماعية، وفق منظمة حقوق الإنسان "ميموريال".

نميل غالباً إلى تأمل روسيا المعاصرة بطريقة مجزأة: الأزمة تلو الأخرى كما لو أنها غير مترابطة، إلا أنها كذلك. اخترنا نحن في الغرب طوال زمن أن نغض النظر أو ظننا أن بعض هذه الحروب سيبقى محصوراً على نطاق محلي، ولم نعِ أنها ستساهم في تحديد بنية السلطة في روسيا وكيفية تعاملها مع العالم الخارجي، وهكذا ظلت جرائم الحرب من دون عقاب طوال سنوات لأنه لا أحد اكترث على الصعيد الدولي أو لا أحد استطاع فعل شيء أو لأن روسيا لا تتمتع بقضاء مستقل ليرفع الصوت.

من المؤكد أن روسيا ليست الوحيدة التي شنت سلسلة طويلة من الحروب وليست الوحيدة التي تسعى إلى إخفاء الجرائم التي ارتكبتها قواتها، أو ميليشياتها، أو قتلتها المأجورون، لكننا لا نشهد في روسيا تحقيقات شبيهة بتحقيق تشيلكوت، وما من إمكانية لمحاسبة السلطة. كذلك لم نرَ حتى اليوم أي أصوات تسعى إلى فضح ما يُقترف من انتهاكات.

تشكّل الحرب خلفية تتيح سحق المعارضة السياسية في روسيا، إضفاء طابع عسكري على مجتمعها، وبناء تأييد أعمى لشخصية الرئيس، فضلاً عن الغطاء الدعائي الكثيف. ننزعج عندما يتحدث بوتين بأسلوب بشع عن "الليبرالية"، ولكن أين الأسئلة التي يجب أن تُطرح عليه مباشرةً عن جرائم الحرب المتعمَّدة المتكررة ضد المدنيين وعن مسؤوليته تجاهها؟

*« ناتالي نوغايريد»

back to top