هل التنمية والتغيير... خرافة؟

نشر في 27-06-2019
آخر تحديث 27-06-2019 | 00:10
الرأي السائد في الحياة السياسية الدولية والدراسات التنموية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وظهور مصطلح "العالم الثالث"، يذهب إلى أن كل الدول قادرة على أن تتقدم وكل الشعوب قادرة على الارتقاء، ولكن هل هناك من يدرس بموضوعية ودون انحياز سياسي أو أيديولوجي، فكرة التقدم والتنمية؟
 خليل علي حيدر أحد الدبلوماسيين من البيرو- دولة في أميركا الجنوبية- قال قبل سنوات في كتاب له، عبارة "غير دبلوماسية"، صريحة وصادمة للعديد من الدول والكثير من الشعوب، نتمنى ألا نكون منها!

تحدثت صحيفة الشرق الأوسط عن الكتاب، عندما نشرت ترجمته العربية في "أبو ظبي" عبر مشروع "كلمة": "يرى المؤلف أن الافتراض بأن كل بلد لديه القدرة على أن يصبح متقدما خطأ، لأن تجربة العقود الأخيرة تشير إلى خلاف ذلك، بل إن العديد من البلدان التي يعتبر الكاتب أنها تسمى خطأ "نامية" ليست على الطريق لتصبح بلدانا حديثة التصنيع، وإنما تنزلق نحو وضع الاقتصادات الوطنية غير القابلة للحياة. وإذا ساء وضعها، فإنها يمكن أن تنفجر ويثور فيها العنف لتصبح كيانات فوضوية لا يمكن حكمها، كما حصل في بعض بلدان إفريقيا والبلقان وآسيا وأميركا اللاتينية". (4/ 12/ 2011).

الدبلوماسي الأميركي اللاتيني "أوزوالدو دي ريفيرو" مؤلف الكتاب الذي ترجم بعنوان "خرافة التنمية" سفير متقاعد خدم في لندن وموسكو وجنيف ونيويورك وعمل ممثلا دائما للبيرو في منطقة التجارة العالمية، وله مؤلفاته ومقالات.

من يتأمل حال العديد من الدول النامية اليوم، لا يتردد عن تقبل هذا الرأي المتشكك المتشائم في مصير التنمية ومآل التقدم، وبخاصة ما ساد في "الأوساط التنموية" من نظرة آلية ومفاهيم ميكانيكية في أساليب التطبيق وتجاهل العوائق، والتركيز الدائم على "التدخل الخارجي" والمؤامرات. فالعديد من الدول الإفريقية التي استقلت وتحررت قبل ستين عاماً، هي اليوم "خرائب تنموية" والكثير من زعماء هذه الدول ثارت عليهم شعوبهم، وسط القارة وشمالها، وبعض شعوبها في الرمق الأخير من حياتها، وقد لا تتعافى دولها إلى الأبد، حيث غادرتها أو تحصنت نخبها ومتوسطو الحال، في حين ترهن شعوبها ممتلكاتها البائسة لتصل إلى أوروبا، التي ثارت هذه الجماهير على استعمارها، والكثير منهم للأسف يغرقون في البحار زرافات ووحداناً، وعدد ليس بالقليل من دول آسيا وأميركا اللاتينية لها حظ وافر من جمال الطبيعة وسعة الأرض والقدرة على التقدم والثراء، ومنها دول عربية وإسلامية، نراها لا تستطيع أن تعبر فجوة الفقر والتخلف وبناء المؤسسات، وتعيش شبه ميتة وسط انفجار سكاني، وفقر مدقع وجماعات متحاربة، ونظريات وعقائد وأفكار لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين. لماذا لا تلحق أندونيسيا وباكستان وبنغلادش وحتى ماليزيا بآسيا الشرقية؟

الرأي السائد في الحياة السياسية الدولية والدراسات التنموية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، وظهور مصطلح "العالم الثالث"، أن كل الدول قادرة على أن تتقدم وكل الشعوب قادرة على الارتقاء ربما مثل ألمانيا واليابان، كما أثبتت كوريا الجنوبية، أو أن تقطع شوطا كبيرا كما نجحت البرازيل وتركيا. ولكن هل هناك من يدرس بموضوعية ودون انحياز سياسي أو أيديولوجي، فكرة التقدم والتنمية؟ وهل هي ممكنة أم "خرافة" كما يعتقد الدبلوماسي الأميركي الجنوبي؟

عايشنا نحن في العالم العربي على امتداد أعوام طويلة منذ استقلال الدول العربية وتجارب التنمية وتطوير الاقتصاد والنهوض بالمجتمعات، ولا شك أن الدول العربية اليوم على درجات متفاوتة من سلم النهوض والتقدم، بالطبع لا ينبغي أن ننخذع بميزان "الناتج القومي" وحده، أو "متوسط الدخل الفردي السنوي" فقط، وبخاصة مع البلدان النفطية أحادية الاعتماد والانتفاع، والتي قد تتفوق في مجال الدخل العام أو متوسط الدخل الفردي على البلدان المتقدمة، مستفيدة من ضخامة الدخل الناجم غالباً عن ارتفاع أسعار البترول وربما قلة السكان من المواطنين.

ويستحق النموذج الإسرائيلي عنايتنا دائما شئنا أم أبينا، فدخل العراق أو ناتجه القومي GDP لشعب يزيد على 37 مليون نسمة هو قرابة 172 مليار دولار، أغلبه من بيع البترول الخام، أو لا يصل متوسط الدخل الفردي إلى 18 ألف دولار سنوياً، كما يقول كتاب مجلة "الإيكونوميست" السنوي. في حين يزيد ناتج إسرائيل القومي على 317 مليار دولار، وقيمة صادراتها- غير البترولية بالطبع- أكثر من 56 مليار دولار- معظمها تصدر إلى الولايات المتحدة وإنكلترا وهونغ كونغ، وبمتوسط سنوي لدخل الفرد يقارب الـ37 ألف دولار، نحو ضعف ما يصل إليه المواطن العراقي إن وصل إليه شيء عبر مشاكل الفساد والانقسامات والصراعات السياسية.

وتثير قضايا التنمية والتخلف كما هو معروف أسئلة مألوفة: ما شروط تقدم الدول؟ وهل الأفضل أن تتولى التنمية الدولة أم القطاع الخاص في اقتصاد حر؟ وهل الحرية السياسية والحرية الاجتماعية والحرية الفكرية من لوازم التقدم ومن أسباب التعجيل به؟ ولماذا تتفوق اليوم دول مثل كوريا الجنوبية في الصناعة وتصدر الإلكترونيات والسيارات والسفن، على دول عريقة في التقدم مثل بريطانيا وفرنسا؟ ولماذا تعجز دولة كروسيا أن تنافس الصين، وأن تكون رغم حجمها وتجاربها الصناعية قبل الثورة الاشتراكية وفي عهد بوتين... في العير أو النفير؟

هل بعض الشعوب أكثر استعداداً حقا للتقدم؟ وهل تسير بعض الثقافات في اتجاه معاكس للتنمية وتطلق أحياناً، كما يقال، على أقدامها النار؟

هذه قضايا أثيرت ولا تزال، رغم ذلك تحتاج إلى الكثير من الكتب والمقالات والنقاش والندوات؟ هناك معركة أخرى خليجية وعربية بين من يدعو إلى التنمية مع الانفتاح وعدم التحفظ، وبين من يريد التنمية مع بقاء الخصوصية، واختيار ما يصلح وما لا يصلح.

ويعتبر الكاتب السعودي فهد سليمان الشقيران "ممانعة المجتمعات للتغيير" خرافة، يروج لها البعض لمصالح معينة، ويقول: "حين توقفت الحفلات الغنائية في السعودية لما يقارب العقد، لم يكن الإيقاف مفهوماً من قبل المؤسسات الرسمية، سألنا وكتبنا باحثين عن الأسباب والمبررات لإيقافها، وما من مجيب.

اليوم وبعد ثلاث سنواتٍ على إطلاق ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لـ"رؤية 2030" وما تكتنزه الرؤية من خطط ومشروعات وحزمة إصلاحات هيكلية على المستويات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وغيرها، بات التغيير ماثلاً وشاملاً، كان البعض مستبعداً أن تظهر عطاءات الرؤية بهذه السرعة، لأنه اعتاد على الأداء البطيء، والأخطر من ذلك البطء في اتخاذ قرارات سلبية بحجة عدم قابلية المجتمع بهذا النمط من التغيير، أو لهذه الظاهرة الجديدة. والحقيقة أن الأمير محمد بن سلمان أثبت للعالم أنه أعرف الناس بمجتمعه، ويعلم جيداً أن الفضاء العام يتحمل كل التغييرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية".

( الشرق الأوسط، 20/ 6/ 2019)

الحجة الأكثر استهلاكاً، يضيف "الشقيران"، القول بأن المجتمع لا يريد هذه التغييرات العصرية والخيارات المدنية، مثل السينما وحفلات الترفية، والسبب في رواج هذه الحجة، يقول: "إن الصوت الأعلى كان لتيار واحد متطرف أصولي استئصالي يعتبر المجتمع كله تحت سطوته، حيث قام بنفوذه في ترهيب بعض المسؤولين". ويضيف إن "بعض مدن السعودية من شدة الصمت والفراغ القاتل، تحولت حينا إلى مدن أشباح، إذ لا حركة ولا أنشطة ولا ترفيه حتى المكتبات العامة التي كنت أزورها كلها بانتظام تعرضت لنكبات رقابية شديدة، مما جعل بعض الكتب تختفي أو تُخفى، تغليباً للسلامة من الثرثرة وحجافل البعض من المحتسبين".

ولكن لتعثر التنمية في العالم العربي أسباب كثيرة أخرى كالفساد والانقلابات والطائفية وضعف مساهمة المرأة، وقلة الإنتاجية، ومعاداة الغرب، والجري خلف الأوهامن والزعامات الدينية والسياسية... إلخ.

والحديث يطول.

لا ينبغي أن ننخذع بميزان «الناتج القومي» وحده أو «متوسط الدخل الفردي السنوي» وخصوصا مع البلدان النفطية أحادية الاعتماد والانتفاع
back to top