المشاكس يوسف شاهين (12-15)

نشر في 19-05-2019
آخر تحديث 19-05-2019 | 00:00
بين أفلام تغوص في قضايا اجتماعية وسياسية، وأخرى تحلق في رحابة الموسيقى والغناء وتفلح في انتزاع الضحكات، وسط «حلاوة» النجاح وقسوة الفشل والقدرة على تطوير اللغة السينمائية، تنوعت تجارب شاهين وهي سمة لم تميزه في فترة البدايات فحسب، بل يمكن تلمسها خلال مشواره الفني.
حول أهم المحطات في مشوار شاهين والتشابكات بين السينما والواقع نواصل.
اعترف شاهين أن علاقة العمل التي جمعت بينه وبين فريد الأطرش كانت اضطرارية لحاجته إلى المال، موضحاً أن هذه الأفلام، رغم اجتهاده فيها، فإنها ظلت غريبة عنه ولا تمثل رؤيته ولا أحلامه، ولما سألت شاهين عن «السبب»، لم يسمع سؤالي جيداً، ولما أعدت السؤال عن سر تلك «الغصة» التي ظلت عالقة بقلبه، كما صرح بذلك، اكتفى باعتذار عن ضعف البطاريات في سماعته الطبية، والتي لا يسمع من دونها.

فهل تلك «الغصة» المرتبطة بتجربة شاهين مع فريد الأطرش تتعلق فقط بإضطراره إلىقبول تقديمها، كما اعترف، نظراً إلى ظروفه المادية؟ أم لأن هذه الأفلام مع قلة قليلة في مشواره الفني لم تكن له مساهمات حقيقية في كتابة السيناريو الخاص بها (وهي مهمة لم يتنازل عنها شاهين إلا في ما ندر)، فالأول كتبه السيد بدير، والثاني أبو السعود الإبياري، يضاف إلى ذلك أنه، كمخرج، لم تكن له الحرية في اختيار عناصر العمل بالفيلم، سواء أبطاله أو حتى الفنيين، نظراً إلى ما عرف عن فريد الأطرش من فرض سيطرته الكاملة على أفلامه وبالأسلوب الذي اختاره لنفسه، أم أن ثمة عوامل أخرى لم تتسبب في تلك «الغصة» فحسب، بل أنهت أي تعاون مقبل مع «الأطرش»؟

يتذكر شاهين موقفاً قد يبدو طريفاً، لكنه لم يكن كذلك بالنسبة إليه، لأنه رواه باعتباره مأساة، أو «كوميديا سوداء»، فبعدما أنهى شاهين تصوير فيلم «إنت حبيبي» وبدأ في طباعة النسخ النهائية الجاهزة للعرض، وسلم فريد الأطرش فعلا بعضها، فوجئ بعد أيام باتصال من فريد الأطرش يتحدث بلهجة غاضبة، وكان محتجا ومحتداً بشدة، وقال لشاهين: إزاي ده يحصل؟، ده خراب بيوت.

ولما سمع شاهين هذه العبارة بالتحديد شعر بالضيق: فسأل فريد وقد تغيرت نبرة صوته؟: إنت حضرتك بتزعق ليه؟، فهمني المشكلة فين علشان نحلها بالعقل، فاعتذر فريد عن أسلوبه الغاضب وقال لشاهين بصوت ودود ومهذب: الموزع بيقول إن الفيلم ناقص اثنين كيلوغرام، فهل نقدر يا يوسف نضيف للفيلم «الاتنين كيلوغرام» دول لأن ده شرط للتصدير والتوزيع؟

يقول شاهين: «التزمت الصمت عدة ثوانٍ من الصدمة، وشعرت بالذهول، فأنا لم أتخيل أن أفلامي مثل الخضار يتم وزنها بالكيلوغرام، ثم تذكرت وعدي للأطرش قائلا «كل مشكلة ولها حل، سأفكر وأرد عليك غداً».

بالفعل وجد شاهين صعوبة في إضافة أي شيء يخص الدراما والديكورات والممثلين، لأن ذلك سيؤدي إلى مضاعفة ميزانية الإنتاج ويتسبب في مشاكل، وبما أن مشكلة الموزع في حدود الوزن، يصبح من السهل إضافة أغنية أو اسكتش غنائي يخدم الأحداث ولا يتصادم مع الدراما. لقي هذا الاقتراح إعجاب فريد وتم تكليف الشاعر فتحي قورة بكتابة كلمات دويتو غنائي يجمع بين فريد الأطرش وشادية، وأخرجه شاهين بطريقة ساخرة مبتكرة، ونجح الاسكتش أكثر من الفيلم، بل كان سبباً في نجاح الفيلم، وهو اسكتش «يا سلام على حبي وحبك/ وعد ومكتوب لي أحبك/ ولا أنامش الليل من قربك».

لم يسقط هذا الموقف من ذاكرة شاهين، لكنه كان يذكره مرة بأسى وغضب، ومرة يحكيه كطرفة، أو مصادفة ادت إلى عمل غنائي ناجح.

قمة الفشل

في إحدى دور العرض كان شاهين يتابع عرض فيلمه «باب الحديد»، كعادته لرصد ردود فعل الجمهور خصوصاً في الأفلام التي إما يجرب فيها لوناً جديداً أو تلك التي تحمل قضاياً يحرص على معرفة رأي جمهورها الحقيقي الذي يسعي إلى مخاطبته، ويصنع من أجله الأفلام، فما بالنا

بـ «باب الحديد» الذي لا يطل من خلاله مخرجاً فحسب ولكن، وهو الأهم، ممثلا لأول مرة وفي دور شديد الخصوصية والصعوبة أيضاً.

كان قلبه يخفق بشدة وأنفاسه تتصاعد وهو يتابع «قناوي/شاهين، في آخر مشاهده بالفيلم، ممسكاً بالسكين يهدد بقتل هنومة/هند رستم، وفي لحظة اندماجه مع المشهد كمشاهد/ ممثل/ مخرج أفاق على «بصقة» وجهها واحد من الجمهور إلى وجهه الذي ملأ الشاشة الكبيرة، لتتوالى بعدها ردود الفعل الغاضبة من الجمهور، وكأنها كانت تتحين الفرصة لمن يبدأ. خرج شاهين من القاعة مسرعاً، فلم يكن بإمكانه متابعة المزيد، كان حزيناً بشدة، مقهوراً كما وصف حالته لاحقاً، لم يفهم لماذا كل هذا الغضب، وهل الأمر يتعلق بأدائه كممثل أم لطبيعة الفيلم ذاته.

هل فشل في إيصال رؤيته كمخرج أم أن قناوي لم يستطع ترجمة الأحاسيس والمشاعر الموجودة على الورق؟ هل كان عليه الابتعاد عن وضع لمساته على السيناريو والقبول به كاملا، كما قدم له من مؤلفه عبد الحي أديب، أم أن السبب يرجع إلى صدمة الجمهور في بطل الفيلم «وحش الشاشة»، {ملك الترسو» فريد شوقي الذي اعتاد الجمهور رؤيته يكيل الضربات يميناً ويساراً، فإذا به يجسد شخصية مناضل ثوري، يسعى إلى تكوين نقابة تحفظ حقوق زملائه «الشيالين» ، وهي صورة مغايرة عن تلك التي اعتاد جمهوره رؤيته فيها؟ هل ولماذا وأسئلة صادمة ومحيرة لم يستطع الإجابة عنها.

يقول: «كان رد فعل الجمهور عنيفاً وضايقني جداً، ووصل بي الحال إلى حد المرض والإعياء، حزنت بشدة وتألمت جداً ومرضت فترة طويلة، ليس بسبب أنهم شتموني عند عرض الفيلم، ولكن لإحساسي بالظلم، فالفيلم كان جيداً بالفعل، بل هو من أفضل أفلامي، وبالنسبة إلي تجربة مهمة، بل يمكن اعتباره نوعاً من «الـسيرة الذاتية»، فلقد كنت في هذه الفترة أعاني بشدة، كنت أشعر بأنني مجروح، لذا جاء قناوي ليعبر عما بداخلي من وجع، على الجانب الآخر كان الفيلم قفزة كبيرة نسبياً، تحديداً ما يتعلق بالطرح السياسي وتحليله الذي كان بسيطاً وعفوياً، وليس كما وصفه بعض الأقلام بأنه «معقد» وغير مفهوم، بل إن البعض الآخر اتهمه بأنه فيلم معاد لمصر لأنه يظهر تعاسة الحرمان الجنسي الذي يعيشه بائع جرائد في محطة مصر!..هؤلاء جميعهم ظلموا فيلمي».

لاحقا اضطر شاهين إلى إضافة لقطات قريبة لعيني قناوي بعد اصرار منتج الفيلم جبرائيل تلحمي على ذلك، برأيه، هذه اللقطات ستساعد على إيضاح الفيلم، إلا أنها بالطبع لم تضف شيئا، بل ساهمت في تشويه الأسلوب كما اعترف شاهين في ما بعد.

الغريب أن الفيلم، بعد مرور سنوات طويلة، حقق نجاحاً كبيراً تحديداً عند عرضه على شاشات التلفزيون، كأن الجمهور اكتشفه مرة أخرى وتفاعل مع أبطاله، بل أنه الفيلم العربي الوحيد في ذلك الوقت الذي عرض تجاريا في لندن بعد مرور 28 سنة على إنتاجه، وحصد المرتبة الرابعة في تصنيف أفضل 100 فيلم مصري.

يقول شاهين: «رغم أنني تألمت بسبب فشل الفيلم، فإنني تعلمت من هذه التجربة كيف أخوض معاركي ولا أستسلم، والأهم ألا أشك في إبداعي، مهما كانت حدة الهجوم، لا بد للمبدع الحر من أن يثق برؤيته ويحارب من أجلها».

يحكي شاهين أنه التقى مرة بأحد أعضاء لجنة تحكيم مهرجان برلين بعد فترة من عرض فيلمه في المسابقة، يقول: «قدمتني ماجدة (شاركت معه في مهرجان موسكو بفيلم «جميلة») للناقد الكبير قائلة: هذا هو المخرج الذي صنع فيلم «باب الحديد» وقام بدور البطل، وشارك في برلين العام الماضي. نظر إلي الرجل متعجباً وقال: غير ممكن، لا أصدق أنك بطل الفيلم، أنا شاهدته، ثم راح يتفحصني بدقة متسائلا: لقد كان بطل الفيلم أعرج فعلا ويعاني اختلالاً نفسياً طبيعياً. فقلت له: مجرد تمثيل.

صرخ الناقد مندهشاً ومبدياً إعجابه بالأداء المذهل وقال: لو كنا نعرف ذلك لمنحناك جائزة التمثيل الأولى، لقد ناقشنا هذه النقطة، وتصورنا أن بطل الفيلم مخلوق بهذه الصفات.فقلت للرجل بحزن وقهر: الله يسامحك زعلتني بزيادة».

وريث عز الدين

في الوقت الذي كان شاهين يتعرض للنقد الحاد والهجوم بسبب فشل فيلمه «باب الحديد، كان يستعد لتصوير فيلم «جميلة بو حريد»، ولم يكن شاهين الاختيار الأول لمنتجة وبطلة الفيلم ماجدة، فقد اتفقت مع عز الدين ذو الفقار، لكن ظهرت خلافات في وجهات النظر جعلت ذو الفقار يعتذر عن العمل، ويرشح شاهين بدلا منه.

الغريب أن ماجدة لم تعترض على الترشيح ولم تتخوف من الفشل أسوة بما حدث في «باب الحديد»، بل راحت تقنع شاهين بقبول العمل عندما حاول «التملص» منه والاعتذار عنه، رغم أن السيناريو كان جاهزا بتوقيع أسماء لها ثقلها في الثقافة المصرية: نجيب محفوظ، عبد الرحمن الشرقاوي، علي الزرقاني ووجيه نجيب عن فكرة ليوسف السباعي، ومن ثم لا يمكنه عمل أي تبديل على السيناريو، سواء ما يتعلق بسياق الأحداث أو بالرؤية السياسية التي يؤكد عليها الفيلم.

المشكلة الحقيقية التي واجهت شاهين، وكانت سبباً وراء رغبته الحقيقية في الاعتذار عن «جميلة» (رغم حاجته إلى العمل خصوصا بعد الفشل الذي لحق بـ{باب الحديد»، واستعادة مكانته على الساحة) كانت تتعلق بأنه لم يكن يعرف شيئا بالفعل عن ثورة الجزائر أو ما يحدث على أرضها.

يقول: «هذا الفيلم كان بداية تعاملي المباشر مع موضوع سياسي، ففي ذلك الحين طغى اهتمامي بعملي على كل شيء، أي لغتي السينمائية وكيفية تطويرها، يضاف إلى ذلك أنني لم أكوّن نظرة تحليلية ناضجة لكثير من القضايا السياسية، محليا وبالأخص عالمياً، لذا رغبت في الاعتذار عن الفيلم، إذ لا يمكنني تقديم عمل يتناول قضية لا أفهمها بدقة، ولكن تحت الإلحاح قبلت العمل، وبغاية البساطة سألتهم من هم الطيبون؟ قالوا: العرب، ومن الأشرار؟ قالوا: الفرنسيون، ومن ثم شرعت في تنفيذه بمنتهى الحماسة والإخلاص».

يضيف: «بالتأكيد لو قدر لي أعادة تقديم هذا الفيلم مرة أخرى لكان مختلفاً، فلا تقتصر أحداثه على رصد قمع الاستعمار ووحشيته أو يكون صرخة تنادي بحق الشعوب في حريتها واستقلالها، بل الاهتمام بنضال الشعب الجزائري وكيف كانت ثورته ضد الاحتلال، والتأكيد أنها ثورة الملايين، وليست فقط عن شخصية بطولية واحدة في حرب التحرير».

شارك الفيلم في مهرجان موسكو، وحقق نجاحاً لدرجة أن السفارات الفرنسية في بعض البلدان تعرضت لاعتداءات بسبب تفاعل الجمهور مع أحداث الفيلم ونضال الشعب الجزائري الذي كان مجهولا لدى البعض. حتى الجزائريون الذين لم يستسيغوا الفيلم كثيرا في البداية، مفضلين عليه أفلاما أوروبية عن ثورة المليون شهيد سبقته إلى الشاشة الفضية أو ستأتي بعده، لكنهم في الحالات كافة اعتبروه أحد الأعمال التي رصدت جانباً من نضالهم من أجل الحرية والاستقلال.

تكريم دولي

رغم النجاح الذي حققه فيلم «جميلة» تجارياً إلا أن شاهين لم يكن معجباً به، وأرجع النجاح إلى الدعم الإعلامي الذي ساند الفيلم بوصفه عملا وطنيا يناصر قضايا الحريات ويندد بالاستعمار وقمع الشعوب، وبما يتوافق مع توجهات المرحلة. إلا أن عرض الفيلم في مهرجان موسكو والاحتفاء به غيّرا وجهة نظر شاهين تجاهه، وبات فخورا بالفيلم الذي أتاح له «التكريم» لأول مرة منذ بداية مشواره السينمائي، صحيح سبق «جميلة» مشاركات لشاهين في مهرجانات كبرى، مثل «ابن النيل» في المسابقة الرسمية لمهرجان «كان» عام 1952، و{صراع في الوادي» في نفس المهرجان عام 1954، و{باب الحديد» الذي مثل مصر في المسابقة الرسمية لمهرجان «برلين» عام 1958، لكن المشاركة شيء والاحتفاء والتكريم شيء آخر، لذلك انتشى شاهين بما حظي به في موسكو من تكريم واستقبال رائع، وقال: «شعرت بالفخر والسعادة واستوعبت أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه السينما تجاه المجتمع، رغم محاولات البعض التقليل من شأن هذا التكريم والتأكيد أنه كان لأسباب سياسية أكثر منها فنية».

ويبدو أن شاهين يتحرك على رقعة شطرنج تجبره على الانتقال من مربع أبيض إلى مربع أسود، حيث يتراوح في أفلامه بين الفشل والنجاح، وبعد هذه النشوة والإحساس بالفخر، سقط في فجوة أطلق عليها أفلام المرحلة السوداء، التي نتعرف إليها في الحلقة المقبلة، كما نتعرف إلى انتفاضة الخروج من الكبوة.

عبقرية المكان

«باب الحديد»، أول فيلم يكتبه السيناريست عبد الحي أديب ويتحقق على شاشة السينما، وكان واحداً من ثلاثة سيناريوهات سعى أديب إلى تسويقها، وعرضها بالفعل على المنتجين. أما فكرة الفيلم فلمعت في ذهنه بحكم أن بيته في مدينة المحلة الكبرى كان يطل على محطة القطار، وكان بدوره يتابع حركة القطارات والبشر وصراعات العمال ومشاهد اللقاء والوداع، من هنا قرر أن يكتب فيلما تدور مجمل أحداثه في هذا المكان، ثم فكر في الانتقال إلى محطة «باب الحديد» في القاهرة، بحكم أنها البوابة الكبيرة للدخول والخروج من العاصمة التي انتقل إليها للدراسة والإقامة فيها، لكنه ظل يفكر في شخصية أو حدث رئيس يضم كل هذا الزخم من الشخصيات والأحداث، ويتيح له أن يعبر من خلاله عن واقع المكان وأجوائه، خصوصا بعدما قرر أن تدور أحداث الفيلم في أربع وعشرين ساعة فقط.

قبلها لفتت نظره شخصية حقيقية لا علاقة لها بالمكان لبائع جرائد «أبرص» يحتضن حقيبة جلدية متهالكة مغطاة بصورة لإحدى الفنانات الصاعدات في ذلك الوقت (هند رستم)، من هنا نشأت أول خيوط الفيلم وبدلا من هوس بائع الجرائد بفنانة يكون بهنومة، لتتوالى بعدها بقية شخصيات الفيلم.

ذو الفقار اختلف مع ماجدة فحصلت على أفضل تكريم في موسكو

فريد الأطرش علمني أن الأفلام يتم وزنها بالكيلوغرام

نعم قدمت أفلاماً من أجل المال لأنني لم أستسلم للفشل
back to top