The Back Channel (القناة الخلفية) الحلقة (الأخيرة)

الربيع العربي... عندما تتوسط «اللعبة القصيرة»

نشر في 17-05-2019
آخر تحديث 17-05-2019 | 00:06
No Image Caption




أدى وليام ج. بيرنز، على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الدبلوماسية الأميركية، دوراً محورياً في المراحل الدبلوماسية الأكثر تأثيراً في زمنه: من نهاية الحرب الباردة السلمية إلى انهيار العلاقات بعد الحرب الباردة مع روسيا بقيادة بوتين، ومن اضطرابات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في الشرق الأوسط إلى المحادثات النووية السرية مع إيران.

يسرد بيرنز في كتابه The Back Channel (القناة الخلفية)، بتفاصيل دقيقة وتحليل عميق، بعض اللحظات المفصلية في مسيرته المهنية، فيستند إلى مجموعة من البرقيات والمذكرات التي رُفعت عنها السرية أخيراً، ليقدم للقارئ صورة داخلية نادرة عن الدبلوماسية الأميركية.

ولاشك أن رسائله من الشيشان التي مزقتها الحرب، أو معسكر القذافي الغريب في الصحراء الليبية وتحذيراته من "العاصفة المثالية"، التي ستطلقها حرب العراق، ستعيد صياغة فهمنا للتاريخ، وتنير المناظرات السياسية في المستقبل، كذلك يرسم بيرنز أطر القيادة الأميركية الفاعلة في عالم لا يشبه منافسة الحرب الباردة التي لم يكن فيها رابح أو خاسر، خلال سنواته الأولى كدبلوماسي، ولا "لحظة القطب الواحد" مع السيادة الأميركية التي تلت.

باختصار، يشكِّل كتاب The Back Channel، الذي عرضت "الجريدة" ملخصاً عنه في 6 حلقات، قصة بليغة غنية بالمعلومات جاءت في وقتها، قصة عن حياة كُرِّست لخدمة المصالح الأميركية في الخارج، كذلك يمثل مذكِّراً قوياً بحقبة من الاضطرابات العنيفة وأن الدبلوماسية مازالت بالغة الأهمية... وفيما يلي تفاصيل الحلقة الأخيرة:

في الأول من فبراير 2011، انضم أوباما إلى كبار مستشاريه في غرفة العمليات، بهدف مراجعة التطورات التي كانت تشهدها الثورة في مصر، فبعد مرور أسبوع على انطلاق الثورة، ارتفعت أعداد المحتشدين في ميدان التحرير إلى نحو مئة ألف متمرد عاقد العزم. صحيح أن مبارك البالغ من العمر ثمانين سنة بدا منهكاً بعد ثلاثة عقود في السلطة، إلا أنه ظل مقتنعاً بعناد بأنه يعرف ما الأفضل لمصر.

بلغ أوباما أن مبارك سيدلي بخطاب متلفز أُعد على عجل، فقطع الرئيس اجتماعاً ليتابع تغطية شبكة «سي إن إن» المباشرة، ورحنا كلنا نشاهد بترقب، وكما هو متوقع، قدّم مبارك حلاً مجتزأ. تعهد بألا يترشح مجدداً في انتخابات الخريف المقبل، إلا أنه لم يتطرق ألبتة إلى موضوع تمهيده الطريق أمام ابنه ليخلفه أو بدئه نقل جزء من صلاحياته إليه في هذه الأثناء، لذلك استنتج أوباما: «لن ينجح هذا العرض»، فقرر الرئيس عندئذٍ الاتصال بمبارك والضغط عليه للتنحي عن السلطة في الحال فيما لايزال بإمكانه صوغ عملية انتقالية، وتفادي المزيد من الفوضى والعنف.

انضممتُ إلى الرئيس ومساعديه في البيت الأبيض لإجراء هذا الاتصال في المكتب الرئاسي، وحين وقفتُ جانباً مصغياً، استطعت استنتاج ردود مبارك المتعالية العنيدة، فقد ظن هذا الزعيم المصري أن أوباما ساذج جداً، لأنه لا يعي مدى أهمية الدور الذي يؤديه مبارك في الحفاظ على النظام في مصر، وفي حين تواصل الحوار عبر الهاتف، لاحظتُ أن أوباما يزداد استياء، مما دفعني إلى التفكير في حوادث شهدتها هناك خلال عهد إدارة ريغان.

عندما تسلم أوباما منصبه، كان عاقداً العزم على تغيير شروط التدخل الأميركي في الشرق الأوسط، ولم يرجُ الرئيس فك ارتباط كبير في منطقة عرف جيداً أنه لا يستطيع تجاهلها، لكنه سعى إلى نوع آخر من التعاطي يختلف كل الاختلاف عن عادات سلفه الأحادية العسكرية بإفراط، لذلك خفض عدد الجنود الأميركيين في العراق، اعتمد على خطوات أصغر لمحاربة الإرهاب شملت طائرات من دون طيار وقوات عمليات خاصة، وأعطى أهمية كبرى للدبلوماسية في التعاطي مع برنامج إيران النووي، وعملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية.

وهكذا تمكن من تحويل جزء أكبر من رهانات الولايات المتحدة الاستراتيجية نحو آسيا، فضلاً عن مجموعة كاملة من المسائل العالمية الملحة (مثل منع انتشار الأسلحة النووية والتغير المناخي)، التي هُملت أحياناً أو قوّضت خلال عقد ما بعد اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، لكن الربيع العربي، تلك الدراما الثورية التي شكّلت فيها مصر الفصل الأول فحسب، أعاده مرغماً إلى التركيز على منطقة الشرق الأوسط الكثيرة الأزمات، بعدما أمل في عمق تجنب تركيز مماثل.

الاستقرار ليس ظاهرة ثابتة

يُعتبر الشرق الأوسط منطقة صعبة خصوصاً بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية، ومع بداية ثورات الربيع العربي، كانت هذه المنطقة تحتوي على ضعف عدد السكان مقارنة بما ضمته عندما تسلمت منصبي أول مرة في عمان في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، فكان 60 في المئة من سكان هذه المنطقة تحت سن الخامسة والعشرين، فضلاً عن أن عملية تمدنها كانت تسير بسرعة تفوق ضعف ما تشهده آسيا. عجزت أسواق العمل عن مجاراة هذه النزعة، وعم الفساد، فمقت الشارع العربي معظم أوجه السياسة الأميركية، سواء في العراق أو فلسطين أو غيرهما، كذلك كره قادته حملات إدارة بوش الثالثة والأربعين وهفواتها، لكنهم اعتادوا في المقابل دور الولايات المتحدة المركزي في عالمهم، فبدوا في حالة فصام واضحة متأرجحين بين كرههم النفوذ الأميركي، والتوقعات التي يعلقونها عليه في الوقت عينه، كذلك بالغوا دوماً في تصوير قدرتنا على التأثير في الحوادث، ونحن قمنا بالمثل.

في عام 2010، أحرق محمد البوعزيزي نفسه في تونس، احتجاجاً على مضايقات الشرطة المحلية، وتلت هذه الحادثة تظاهرات وصدامات عنيفة انتشرت في مختلف أرجاء البلد، وفي غضون شهر، هرب الرئيس زين العابدين بن علي، وبدأ المعارضون العلمانيون والإسلاميون مفاوضات بشأن الترتيبات الانتقالية، وسرعان ما انتشرت الثورة في تونس إلى إحدى الدول العربية الكبرى الأكثر أهمية: مصر.

تخطت مصر عواصف سياسية لا تُحصى طوال سبعة آلاف سنة، وبعد ثلاثين عاماً في السلطة، بدا حكم مبارك متقلقاً إنما صامد، فشكّل الجيش المؤسسة الوحيدة الوطنية بحق.

رافقتُ كلينتون في طريق العودة من اجتماع آخر في البيت الأبيض، وعلى الطريق اقترحتُ إرسال مبعوث خاص لمقابلة مبارك وتسليمه رسالة شديدة اللهجة من الرئيس، وشكّل هذا الجهد الأخير لإقناع مبارك بالتنحي قبل أن نطالب برحيله صراحة وعلانية. كان يجب أن نختار موفداً يعرفه مبارك ويثق به، فطرحتُ اسم فرانك ويزنر، دبلوماسي متقاعد مقرب من مبارك عمل سفيراً في القاهرة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، والتقى ويزنر مبارك في القاهرة، ونقل إليه مجموعة من النقاط التي عكست ما عبّر عنه الرئيس في اتصالات سابقة، فشعر ويزنر، وهو دبلوماسي محترف واسع الخبرة، أن النقاط التي أعدها فريق مدينة نيويورك دقيقة على نحو موجع (مثل الحض المفيد على «التوقف لرؤية رد الفعل» بعد المقطع الأول)، بيد أنه أوصل هذه الرسالة بفاعلية وأمانة، وأشار ويزنر إلى أنه ظن أن مبارك سيتجاوب معها.

إلا أنه لم يفعل، وازداد الوضع سوءاً عندما نزل «بلطجية» يدعمون مبارك إلى ميدان التحرير وهم يمتطون جمالاً وأحصنة وراحوا يضربون المتظاهرين بالهراوات. نتيجة لذلك، شدد البيت الأبيض خطابه، مصراً على ضرورة أن يبدأ مبارك العملية الانتقالية «الآن»، لكن البيت الأبيض امتنع عن الدعوة مباشرةً إلى رحيله الفوري.

في النهاية، أوضحت القوات المسلحة برئاسة وزير الدفاع محمد حسين طنطاوي لمبارك أنها توقفت عن الدفاع عنه، وأن الوقت قد حان لتنحيه، فاستقال، وسلّم السلطة إلى الجيش، وسافر بالطائرة إلى مسكنه في منطقة المنتجعات في سيناء شرم الشيخ، وهكذا انتهى عهد مبارك.

بخلاف وعود جماعة الإخوان المسلمين الأولى عن أنهم لن يشاركوا بأي مرشح في الانتخابات الرئاسية في شهر يونيو عام 2012، قدّم حزب الحرية والعدالة محمد مرسي مرشحاً له، وحظي هذا الأخير بدعم محدود من قطر، وبدعم أقل بعد من تركيا، لكنه فاز في الانتخابات بهامش ضيق، مما كشف عن انقسام شديد بين الناخبين المصريين.

التقيتُ مرسي في مطلع يوليو بعيد تسلمه منصبه، وزارته كلينتون أيضاً في وقت لاحق من ذلك الشهر، شجعناه على أن يشمل في حكمه كل الفئات في مصر، وأن يركّز على الاقتصاد، وأن يلتزم بالمعاهدة مع إسرائيل، وقد تنبه خصوصاً للنقطة الأخيرة، فامتنع عن التدخل في القنوات العملانية التي حافظ عليها الجيش وأجهزة الاستخبارات المصرية مع الإسرائيليين، كذلك عمل بشكل بناء مع كلينتون بهدف تفادي صدام إسرائيلي كبير مع حركة «حماس» في غزة في نوفمبر، لكن مرسي لم يحقق أي تقدم في الاقتصاد، وفشل فشلاً ذريعاً في الحوكمة الشاملة.

بحلول ربيع عام 2013، كان التوتر يتزايد بسرعة. تحرّك السيسي بسرعة ليسحق الإخوان المسلمين، لكن الرئيس الأميركي لم يُسرّ بخطوة الجيش هذه التي شكّلت سابقة معقدة في منطقة مازالت تعج بالثورات من مختلف الأطياف، وأدت إلى انقسام أشد في المجتمع المصري وإلى صراع مدني أكبر، لكنه كان يدرك أيضاً الجو العام الذي ساد بين فئات الشعب المصري، اعتمادنا المتواصل على شركاتنا الأمنية مع مصر، وقيمة الاحتفاظ ببعض التأثير في السيسي، وعملية الانتقال بعد الثورة التي طالت كثيراً.

أكّد البيت الأبيض أن القانون لا يفرض تحديد ما إذا كان هذا انقلاباً أم لا، لذلك قرر عدم التحديد، فعندما أتأمل تلك المرحلة اليوم أرى أنه كان علينا أن نسمي الأمور بأسمائها وندعو الانقلاب انقلاباً ثم نعمل مع الكونغرس لنتفادى استعمال تلك الأداة الحادة: تعليق المساعدات بالكامل، وبدلاً من ذلك، وليعبّر الرئيس الأميركي عن استيائه من الانقلاب الذي لم يكن انقلاباً والخطوات التالية التي اتخذها السيسي ضد الإخوان المسلمين، علّق شحن بعض الأنظمة العسكرية، منها طائرات إف-16 ودبابات إم 1 إيه 1، التي لم تُعتبر مطلقا مهمة لأولوية مصر الأمنية الرئيسة: محاربة التمرد الإسلامي المتنامي في سيناء. وهكذا لم ننجح في نهاية المطاف في نيل حظوة عند أحد وعادينا الجميع: الإسلاميين المحاصرين، الثوار المقموعين، أصدقاءنا وشركاءنا في المنطقة، وبالتأكيد الجيش المصري والكونغرس.

2011 حفل بالثورات

بدت الأنظمة العربية المستبدة متشابهة باستقرارها الظاهري، ولكن في 2011، كان لكل ثورة طريقتها الخاصة في زعزعة الحكم، فنشبت هذه الثورات بشكل متوازٍ فيما ألقت كل منها ظلها على الثورات الأخرى، لكن الأكثر تفرّداً بينها كانت الثورة ضد القذافي.

التزم القذافي بما تعهد به في صفقتنا بشأن الإرهاب والمسألة النووية، إلا أنه واصل الحكم بغرابة وقمع، مقتنعاً بأن الضرب بقوة وأحياناً بوحشية ضروري للحفاظ على تماسك بلد بناه الاستعمار الإيطالي من خليط من القبائل والمناطق التي تفتقر إلى روابط قوية، أما خطابه الغريب الذي دام تسعين دقيقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف عام 2009، فلم يشكّل بالتأكيد دليلاً على سلامة عقله. راح يهوج ويموج عائداً من حين إلى آخر إلى قصاصات ورق وزّعها على المنصة، ومنتقلاً من تعليق مجنون إلى آخر، ونتيجة لذلك شعر مترجمه باستياء كبير، حتى انه بعد خمس وسبعين دقيقة صاح: «ما عدت أستطيع التحمل». ثم رمى سماعاته وخرج غاضباً.

لا عجب في أن الشعب الليبي المجزّأ ثار بعدما شهد ثورتين مذهلتين على جانبي حدوده، الأولى في تونس ومن ثم مصر. كذلك لا عجب في أن القذافي رد بالغل والعنف المعهودين. سعى القذافي إلى إعادة زرع الخوف في نفوس شعبه غير عابئ بكل مَن يشاهدون أعماله حول العالم. أمر الجيش باستعادة السيطرة على بنغازي و»القضاء على الجرذان والكلاب» من المقاومين. وأعلن: «سنعثر عليكم في خزائنكم. لن نبدي أي شفقة أو رحمة».

خشي أوباما التدخل العسكري الأميركي المباشر، لكن الضغط للتحرك تفاقم مع اقتراب قوات القذافي من بنغازي، كذلك ظهر انقسام كبير بين مستشاري أوباما، فقد أعرب بايدن وغيتس عن تحفظهما، لأنهما اعتقدا أن ما يحدث في ليبيا لا يهدد مصالح الولايات المتحدة الوطنية الحيوية، اننا منهمكون أساساً في إنهاء حربينا في العراق وأفغانستان، واننا لا نملك أدنى فكرة عما قد ينجم عن هذا التدخل.

أخيراً، بدا ممكناً التوصل إلى قرار في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يسمح بالتدخل، ما يمنح هذه العملية ختم القانونية والشرعية الدوليتين الذي افتقرت إليه حرب الولايات المتحدة الثانية. كان الروس والصينيون قد دعموا في أواخر شهر فبراير قراراً يدين وحشية القذافي، وأشار الرئيس ميدفيديف إلى نائب الرئيس الأميركي أن روسيا ستمتنع على الأرجح عن التصويت على القرار الجديد. صحيح أن بوتين لم يبدُ متحمساً، إلا أنه لم يشأ معارضة تلميذه. كذلك أيّد الكونغرس الأميركي بقوة العمل العسكري المحدود مع موافقة مجلس الشيوخ بالإجماع على قرار في شهر مارس يدعم مشاركة الولايات المتحدة في فرض منطقة حظر جوي.

اختار أوباما تنفيذ عمل عسكري مدروس بدقة، بهدف منع قوات القذافي من بلوغ بنغازي. وهكذا نجت بنغازي من هجوم القذافي، الذي دُحرت قواته. استعادت بعد ذلك ميليشيات الثوار زخمها. وبحلول شهر أغسطس، سيطرت على طرابلس. بعد سقوط طرابلس، هرب القذافي. ولكن أُلقي القبض عليه في النهاية وقُتل في شهر أكتوبر بطريقة بشعة في سرت قرب المكان الذي التقيته فيه آخر مرة في ظروف أفضل بالتأكيد في عام 2005.

في أعقاب سقوط القذافي، شكّلت عملية ليبيا مثالاً تقليدياً أظهر كيف يمكن لاستراتيجية «اللعبة الطويلة» التي اعتمدها أوباما أن تحد من التدخل الأميركي في الشرق الأوسط وتدفع الآخرين إلى التحرك، وكلفت هذه العملية وزارة الدفاع الأميركية أقل من مليار دولار، أي ما يعادل نصف ما ننفقه في أفغانستان كل أسبوع، كذلك نفذ شركاؤنا الأوروبيون والعرب 90 في المئة من الطلعات الجوية، وأرسلت الأمم المتحدة بعثة سياسية إلى طرابلس، بهدف مساعدة حكومة انتقالية. استؤنف أيضاً إنتاج النفط، وبدأنا نخطط لبرنامج تدريب لقوات أمن ليبية جديدة مع حل الميليشيات.

ولكن خلال رحلة كنت أزور فيها الأردن في شهر سبتمبر، تلقيت اتصالاً من النوع الذي تخشاه دوماً، كان المتصل مركز العمليات في وزارة الخارجية، وأراد أن يبلغني تعرض دبلوماسيين أميركيين لاعتداء في بنغازي. غُلفت الأسئلة المشروعة عن الخطوات الإضافية التي كان يجب أن تُتخذ في المجال الأمني بمجموعة من التحقيقات وجلسات الاستماع التي بدت هزلية جداً، حتى وفق معايير واشنطن العصرية.

رغم ذلك، واصلت سفارتنا العمل ببسالة كلما أُتيح لها التحرك داخل البلد.

غاز السارين في الغوطة

من الصعب ألا نعتبر المعاناة السورية إخفاقاً سياسياً أميركياً. مرت مراحل عدة خلال الأزمة السورية المطوّلة كان التدخل الأميركي الأكثر حسماً فيها سيحدث فارقاً. طالبتُ في عام 2012 بدعم أكثر فاعلية لما كان لا يزال يبدو آنذاك معارضة معتدلة، وإن كانت غير متجانسة، وبرد عسكري على استخدام الأسد غاز السارين في صيف عام 2013. لكن هاتين الخطوتين ما كانتا لتبدلا بالضرورة الاتجاه الذي سلكته الأحداث، ورغم العقبات التي اصطدمنا بها في الأمم المتحدة، عملنا جاهدين مع الروس في محاولة للتوصل إلى مسار لتنظيم عملية انتقالية تفضي إليها المفاوضات.

في الحادي والعشرين من أغسطس، استخدم الجيش السوري السارين ضد مدنيين في الغوطة. وأدلى أوباما بتصريح موجز أشار فيه إلى أنه سيسعى لينال موافقة الكونغرس على توجيه ضربة إلى الأسد، وفي هذه الأثناء انطلقنا أنا وجايك سوليفان إلى سلطنة عمان في مطلع شهر سبتمبر لنستأنف المحادثات السرية مع الإيرانيين.

خلال مفاوضاتنا السرية في عمان، توالت التطورات بسرعة في مسألة الأسلحة الكيماوية السورية، والتقى الرئيس الأميركي بوتين خلال اجتماع مجموعة الدول العشرين في سانت بطرسبرغ في الأسبوع الأول من سبتمبر، فطرح عليه بوتين عرضاً غامضاً عن قرار دبلوماسي لحل مشكلة الأسلحة النووية، مع إمكان موافقة الأسد على شحن ما تبقى من مخزونه الكيماوي إلى خارج البلد، وإنهاء برنامجه، ولكن كان من الصعب تحديد مدى جدية الروس.

مع انقضاء عام 2014، كان بروز داعش العنيف وغير المتوقع، وسقوط الموصل، وتزايد الخطر الذي هدد استقرار العراق، مما أقنع البيت الأبيض في النهاية بالتحرك بجرأة أكبر، فأطلق برنامجاً بقيمة 500 مليون دولار قادته وزارة الدفاع الأميركية لتدريب المعارضة السورية المعتدلة وتجهيزها بهدف محاربة «داعش»، حسب ما قيل، لا الأسد، لكن هذا البرنامج جاء متأخراً جداً، وبدا أكثر تعقيداً وأصغر من أن يكون له تأثير كبير في الحرب الأهلية السورية. كان ائتلاف من المقاتلين الإسلاميين، الذي استفاد من خليط من دعم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ودول الخليج العربي، يحقق مكاسب كبيرة، مما أثار قلق موسكو، ونتيجة لذلك، تدخل بوتين بحسم أكبر في سورية في خريف عام 2015، معتمداً انتشاراً عسكرياً محدوداً نسبياً، بهدف تعزيز التأثير السياسي. فدعمت الضربات الجوية الروسية قوات الأسد وساعدتها في تحسين فاعليتها على الأرض، وفي الوقت عينه، ساهمت الحملة التي قادتها الولايات المتحدة ضد «داعش» في دحر خلافة هذا التنظيم من الموصل والرقة، وهكذا، ظل الأسد في دمشق، واستعاد السيطرة على الجزء الأكبر من المراكز السكانية السورية الرئيسة، وأثبت خطأ مَن توقعوا سقوطه، وخرّب بلده لأجيال عدة.

أوباما يواجه إرثه في الشرق الأوسط

لا تشكّل قصص سورية، وليبيا، ومصر المعقدة خلال عهد أوباما سوى أجزاء من لوحة سياسية أميركية أكبر في الشرق الأوسط، حيث هدفت استراتيجية أوباما الشاملة، أو لعبته الطويلة، إلى تفكيك سيطرة هذه المنطقة النفسية، والعسكرية، والدبلوماسية، والسياسية تدريجياً على السياسة الخارجية الأميركية التي دامت عقوداً.

رغم كل هفواتها التكتيكية المحتمة، وما كان باستطاعتنا إنجازه بشكل مختلف أو أفضل، بدت مقاربة إدارة أوباما في مصر سليمة عموماً، ولا شك أننا اقترفنا أخطاء خطيرة في ليبيا، إلا أنها لا ترتبط بقرارنا التدخل بادئ الأمر بقدر ارتباطها بإخفاقنا في التخطيط لمقاربة أمنية واقعية بعد سقوط القذاقي وتطبيقها، لكننا ساهمنا في تفادي مجزرة واضطلعنا بدور أساسي في تدخل عسكري ناجح تكتيكياً.

تبقى سورية مصدر القلق الأكبر، ومن المؤكد أن التدخل العسكري الأميركي الكبير ما كان ليحل الصراع، بل كان سيزيد الأوضاع سوءاً بالنسبة إلينا على الأرجح، لكن الخطأ الذي اقترفناه بين عامَي 2012 و2014 يكمن في أننا جمعنا غالباً بين أهداف قصوى ووسائل متواضعة.

في الختام، عجز أوباما عن الهرب من إرثه في الشرق الأوسط، وكانت مجموعة المشاكل التي واجهها أقل تأثراً باستخدام القوة الأميركية في عالم تتراجع فيه هذه القوة التي يمكن استخدامها، طغت حوادث الربيع العربي، الذي تحوّل إلى شتاء، من نواحٍ عدة على سعي أوباما إلى إعادة ضبط الدور الأميركي في المنطقة والعالم على الأمد الطويل، لكن صفقته النووية مع إيران عادت لتعزز قناعاته بشأن قوة الدبلوماسية ودور قيادة الولايات المتحدة المحوري.

المؤلف: وليام ج. بيرنز

سرعان ما انتقلت الثورة من تونس إلى إحدى الدول العربية الكبرى الأكثر أهمية وهي مصر

وزير الدفاع المصري أوضح لمبارك أن الجيش توقف عن الدفاع عنه وأن الوقت حان لتنحيه فاستقال

في 21 أغسطس 2012 استخدم الجيش السوري «السارين» ضد مدنيين في الغوطة فقرر أوباما توجيه ضربة إلى الأسد

عملية ليبيا شكّلت مثالاً تقليدياً أظهر كيف يمكن لاستراتيجية «اللعبة الطويلة» التي اعتمدها أوباما أن تحد من التدخل الأميركي في الشرق الأوسط

لا عجب في أن الشعب الليبي المجزّأ ثار بعدما شهد ثورتين مذهلتين على جانبي حدوده الأولى في تونس والثانية في مصر
back to top