تصوّرات عن تراجع الولايات المتحدة

نشر في 05-05-2019
آخر تحديث 05-05-2019 | 00:00
شدد كثيرون على أن أسلوب إدارة ترامب في السياسة الخارجية يميل إلى ترك الآخرين في حالة غموض وضياع، وقد يكونون محقين، خصوصاً أن التضارب في التصريحات السياسية الأميركية يشكّل سمة جديدة من المهم التنبه لها، لكن هذا لا يعني أن الدولة الأميركية التي كانت قائمة هنا أمس ستزول غداً.
 ريل كلير ثار أسلوب إدارة ترامب الجديد في السياسة الخارجية الكثير من التعليقات عن تراجع النظام الدولي الذي بُني على صورة الولايات المتحدة، لكن أسلوب التعليقات هذا يكشف تفاصيل عن الطريقة التي يناقش بها الخبراء التوجهات في الشؤون الدولية أكثر مما يكشف عن محتوى السياسة الخارجية بحد ذاتها، لذلك إذا أردنا تكوين صورة أفضل، فعلينا أن نركّز على دور الولايات المتحدة وخطواتها في الشرق الأوسط.

كان للولايات المتحدة تاريخياً مصلحتان بالغتا الأهمية في الشرق الأوسط: دعم دولة إسرائيل وضمان حرية إمداد العالم بالنفط. ساد الاعتقاد عموماً أن الولايات المتحدة حققت ذلك بمحاولتها موازنة مصالحة الأطراف المختلفة في المنطقة، فسمحت أزمة قناة السويس عام 1956 لواشنطن بأن تحل محل بريطانيا وفرنسا، في حين أتاح لها بروز أنور السادات أن تحل محل روسيا في مصر، لذلك يصوّر الأميركيون اليوم أنفسهم بصفتهم حكماً أساسياً في المنطقة. ورغم التحديات الكبيرة من إيران عام 1979 ومن العراق عام 2003، ساد الاعتقاد أن هذه منطقة تحسم فيها الولايات المتحدة كل المسائل أو تمنع على الأقل الآخرين من القيام بذلك.

في معظم الأحوال، قادت الدبلوماسية الأميركية الدرب، ودعمتها القوة الأميركية عند الحاجة، لكننا نرى اليوم دولة أميركية فقدت على ما يبدو رغبتها في خوض مغامرات عسكرية في الشرق الأوسط. بفضل التصديع المائي، ما عادت الولايات المتحدة تعتبر منطقة الخليج العربي ممراً مائياً أساسياً يعبره معظم نفط العالم، كذلك نرى دولة أميركية انتقلت على الأقل من تصوير نفسها كوسيط نزيه في المنطقة إلى وسيط يتحيز علانية، بالإضافة إلى ذلك، لم تعد إسرائيل الوحيدة التي تتمتع بحماية الولايات المتحدة في المنطقة، فقد وقف الأميركيون إلى جانب المملكة العربية السعودية، ودول الخليج، ومصر، والأردن ضد إيران. لم يعد البيت الأبيض أيضاً يدعم حل إقامة دولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، وفي أعقاب الحرب السورية، صار لروسيا، وتركيا، وإيران دور كبير في تحديد مَن يمسك بزمام السلطة، ووتيرة إعادة الإعمار بعد الحرب، ومصير الكثير من اللاجئين.

لهذه الأسباب، استخلص كثيرون على ما يبدو أن الولايات المتحدة انتقلت من كونها صاحب الكلمة الفصل إلى مجرد مشاهد بعدما خسرت هيمنتها، ولكن مجرّد تبدّل القوة الأميركية لا يمنحنا سبباً للاعتقاد أنها تراجعت وانتهت.

يدرك مَن عملوا في المنطقة مدى شيوع نظرية أن الولايات المتحدة قادرة على كل شيء، إذ دُعيت هذه النظرية "الرجل على القمر": إذا كان باستطاعتك أن تنزل رجلاً على القمر، تستطيع إذاً أن تقوم بكل ما تريد. وإن كان بإمكانك أن تفعل أي شيء، فلا يحدث إذاً أي أمر من دون إذنك. لذلك عندما كانت المسائل تسير بخلاف ما يرغب فيه الأميركيون، اعتاد بعض المحللين التفكير في أن الأميركيين يتبعون على الأرجح خطة ذكية جداً لتحقيق مآربهم بأساليب لا يدركها أحد.

ولكن مع نهاية نظرية القدرة المطلقة هذه، حل محلها العجز. وفق نمط التفكير الجديد هذا، لا يستطيع الأميركيون القيام بأي أمر في المنطقة، بل تحوّلوا إلى "عملاق عاجز بائس" كما في كابوس نيكسون من الماضي. لكن هذا ليس صحيحاً.

لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بقدرة عسكرية أكبر من أي دولة أخرى، فضلاً عن أنها ليست منغلقة على نفسها بل تتمتع بتحالفات وعلاقات لا تستطيع أي قوة عظمى أخرى مضاهاتها، حتى مع انتهاز الروس فرصة الوضع في سورية، بالإضافة إلى ذلك يبقى الاقتصاد الأميركي الأكبر في العالم، ولا تزال روابطها التجارية، التي نمت في الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، ناشطة رغم توسيع الصين تأثير مبادرة الحزام والطريق في المنطقة. كذلك ما زالت الولايات المتحدة تسيطر على المسارات المائية وما زال أفضل الطلاب يسعون لدخول الجامعات الأميركية.

لا شك أن تأثيرها تراجع في بعض المناطق والمراحل، إلا أن القوة الأميركية ما زالت واضحة.

ومن الحكمة أن نذكّر أصدقاءنا وخصومنا، فضلاً عن أنفسنا، أننا لم نترك بعد المسرح العالمي. فكما كان من غير المنطقي في الماضي أن يعتقد سكان الشرق الأوسط أن كل ما يحدث في تلك المنطقة من تخطيط الولايات المتحدة، كذلك من غير المنطقي اليوم أن نفكّر في أن الولايات المتحدة وُضعت على جنب وأن قوى أخرى تتخذ كل القرارات.

إذاً، يرتبط تراجع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بتصوراتنا أكثر من ارتباطه بالواقع. يكمن الخطر الفعلي في أن يتخذ الآخرون قراراتهم بالاستناد إلى هذه التصورات ويسيئون فهم الدور الذي ما زالت الولايات المتحدة تؤديه هناك وحول العالم.

شدد كثيرون على أن أسلوب هذه الإدارة في السياسة الخارجية يميل إلى ترك الآخرين في حالة غموض وضياع. قد يكونون محقين، وخصوصاً أن التضارب في التصريحات السياسية الأميركية يشكّل سمة جديدة من المهم التنبه لها. لكن هذا لا يعني أن الدولة الأميركية التي كانت قائمة هنا أمس ستزول غداً، ومن الخطأ بالتأكيد أن تبني دول أخرى سياساتها وقراراتها الاقتصادية على هذا الأساس. صحيح أن هذا أسلوب جديد وأن علينا جميعاً اعتياده، ولكن ماذا عن مضمونه؟ لا تزال الولايات المتحدة دولة هائلة مذهلة.

* كاميرون مونتر

* «ريل كلير ورلد»

لا شك أن تأثير الولايات المتحدة تراجع في بعض المناطق والمراحل إلا أن قوتها ما زالت واضحة

ما نراه اليوم هو دولة أميركية فقدت رغبتها في خوض مغامرات عسكرية في الشرق الأوسط
back to top