عن حريق كاتدرائية نوتردام

نشر في 29-04-2019
آخر تحديث 29-04-2019 | 00:00
 ريل كلير ما هي إلا دقائق بعد اندلاع الحريق في كاتدرائية نوتردام في باريس في 15 أبريل حتى سارعت وسائل الإعلام حول العالم إلى تغطية الحدث مباشرةً من موقعه في جزيرة المدينة.

كانت ألسنة اللهب ترتفع عالياً عبر السطح، فيما راح المعلقون الأميركيون والأجانب في الخارج يعلنون أن هذا الحدث المأساوي لن يقضي على الكاتدرائية فحسب، بل سيوجّه أيضاً لفرنسا ضربة في الصميم، مدمراً تحفة لا تعوض في الحضارة الغربية.

كذلك قُدمت تحليلات مدروسة، حسبما يبدو، حول كيفية تقبل الشعب الفرنسي هذه الكارثة. سيطرت عقلية القطيع على وسائل الإعلام، فكان التحدي التفوه بكلمات استثنائية عن بلد ربما زاره الإنسان مرات عدة، حتى إنه صار يجيد لغته إلى حد ما.

أدرك المعلقون الفرنسيون أيضاً أن كل الأنظار مسلطة عليهم، فأطلقوا العنان لأنفسهم. على سبيل المثال، قدّم الناشط الدولي الماهر برنارد هنري-ليفي في مقابلة عبر الهاتف مع إحدى القنوات الأميركية الخطاب المتوقع منه.

لا شك أن دمار كاتدرائية نوتردام مأساة حقيقية، فقد قضى الحريق على أعمال لا تُقدَّر بثمن، منها مثلاً الزجاج الملون المهم تاريخياً في نوافذ الورد، ولكن وفق التقارير الإخبارية، تم احتواء الضرر. فقد صمد المبنى المعد من الحجر الجيري، كذلك تعهد المتبرعون بتقديم نحو مليار يورو لإعادة بناء هذا الصرح المذهل، وإذا لم تقضِ السياسة على هذا المشروع، فستتحول إعادة بناء الكاتدرائية إلى مهمة وطنية، ويجب أن تكون كذلك.

صحيح أن نوتردام لن تعود إلى سابق عهدها، إلا أنها ستُرمم لتصبح مرة أخرى مذهلة وكاملة، لتعود مرة أخرى معلماً سياحياً دولياً ومقصداً دينياً، وإن لم تتمتع بالشهرة ذاتها كرمز لفرنسا كما برج إيفل.

ولكن ليس صحيحاً أن كاتدرائية نوتردام تعبّر عن أعمق مشاعر كل فرنسي حيال فرنسا، لنتكلم بالعموم: تحوّل الفرنسيون قبل عقود إلى شعب علماني بغالبيته، وهكذا بات التردد على الكنائس والإيمان المسيحي الحقيقي مجرد جزء مما كانا عليه في الماضي. ما عادت حياة الكاهن تحظى بإقبال كبير (قلّ عدد مَن ينتسبون إلى الكهنوت، حتى بات الكهنة اليوم يُستقدمون من دول إفريقية ويُرسَل بعض هؤلاء، فكّرْ في هذا، إلى الريف الفرنسي حيث يجوبون البلدات والقرى الصغيرة لأداء الخدمة الدينية).

في خطوة أقل تجرداً، قد نتساءل عن مشاعر متظاهري "السترات الصفراء" الغاضبين، الذين احتلوا مستديرات وشوارع في مختلف أنحاء البلد، حيال النار التي التهمت كاتدرائية نوتردام.

لا شك أن الكثير من متظاهري السترات الصفراء من المؤمنين الكاثوليك بالمعنى المتشدد للكلمة. وقد يعتقد هؤلاء أن احتراق كاتدرائية نوتردام امتحان من الله لإيمانهم.

سيشعر فرنسيون آخرون، ومن بينهم متظاهرو السترات الصفر، بحزن حقيقي، إلا أن هذا الحريق لن يهزهم في الصميم، فهم علمانيون بدينهم ويساريون بمبدئهم، مما يعني أنهم مناهضون لرجال الدين بالمعنى التاريخي، ومما يدفعهم إلى معارضة تأثير الكنيسة في المجتمع الفرنسي.

يشمل هؤلاء اشتراكيي هذا البلد، وشيوعييه القلائل المتبقين، وناشطيه الخضر، وحركته "فرنسا الأبية" اليسارية المتطرفة الواسعة. الأهم من ذلك أن هذه الفئة تضم أيضاً الجزء الأكبر من نخبة فرنسا التجارية والمالية المعولمة، أولئك الذين يشعرون بالارتياح في نيويورك، وشنغهاي، ودافوس كما باريس.

يعتبر هؤلاء بالتأكيد كاتدرائية نوتردام رمزاً فرنسياً مهماً، لكن فرنسا التاريخية-الثقافية هذه لا تشكّل جزءاً من الواقع الذي يعيشونه، فهم فرنسيون، إنما ليسوا "فرنسيين" بالطريقة التي يميل العالم إلى تخيلها عن الفرنسيين.

بالنسبة إلى هذه المجموعات ومعظم الناس حول العالم، من المؤكد أن كارثة تطيح ببرج إيفل كانت ستسبب صدمة أكبر، ولكن لا يخفى على أحد أن فرنسيين كثراً يعتبرون أن برج إيفل يفتقر إلى الذوق.

إليك الآن الخبر الأفضل: على خلفية بلد يعاني اضطرابات كثيرة، يشكّل دمار نوتردام الجزئي هذا فرصة لفرنسا والفرنسيين ليختبروا لحظة من الوضوح السياسي والثقافي. صحيح أن حريق هذه الكاتدرائية ليس حدثاً تاريخياً عالمياً، إلا أنه يمثل رغم ذلك صدمة للبلد.

بالإضافة إلى ذلك، تشكّل هذه الصدمة فرصة للرئيس إيمانويل ماكرون ليجسد البلد. ويستطيع ماكرون أن يضطلع بهذا الدور بفاعلية، وخصوصاً عندما يتأثر هو شخصياً، عندما تكون المسألة ملحة، وعندما يعبّر عن أفكاره الخاصة ولا يتفوه بالعبارات المبتذلة المستهلكة.

كان ماكرون يخطط للإدلاء بخطاب كبير مساء الاثنين الماضي يعرض فيه تفاعل الحكومة مع حركة السترات الصفراء وسلسلة الاجتماعات التي عقدها في دور البلديات في مختلف أنحاء البلد ليناقش ما يعتبره فرنسيون كثر أبرز مشاكلهم ومشاكل بلدهم: كلفة العيش التي تغرق كثيرين في الفقر وأعباء الضريبة الساحقة.

لكن ماكرون عمد بتعقّل إلى إرجاء خطابه لكي يتمكن من الجمع بين مخاوفه كصانع سياسات ودروه الذي يجسد فيه الدولة في الجمهورية الخامسة كما أسسها شارل ديغول.

يجب أن يحوّل حريق كاتدرائية نوتردام إلى لحظة مهمة في الرواية الوطنية الفرنسية. قد لا يكون بالتحديد أباً للبلد، إنما يشبهه، وعليه أن يستحضر من ديغول أكبر قدر ممكن.

لكنه لم ينجح في ذلك حتى اليوم، ويبدو ماكرون مصطنعاً، كما لو أنه يبذل جهداً أكبر من اللازم، كذلك أدت الشكوك التي نشأت حول دوافع المتبرعين إلى إضعاف هذه القضية.

لكن المعركة السياسية والعلاقات العامة لم تنتهِ بعد، وهذه لحظة يجب أن يكون فيها ماكرون على طبيعته ويثق بحدسه أو "عبقريته"، على حد تعبير الفرنسيين. هذا ما يحتاج إليه بالتحديد إن كان يريد أن يستغل هذه اللحظة ليعيد توحيد فصائل فرنسا المتجزئة وراء رؤية موحدة عما قد تغدوه فرنسا.

*«رونالد تييرسكي»

back to top