السودان بين جذور الثورة ومتاهة حكم العسكر

نشر في 26-04-2019
آخر تحديث 26-04-2019 | 00:00
اعتصام الجماهير السودانية أمام مقر القيادة العامة للجيش
اعتصام الجماهير السودانية أمام مقر القيادة العامة للجيش
في ذكرى إطاحة حكم الرئيس السوداني الأسبق المطلق جعفر النميري في سنة 1985 خيم آلاف الأشخاص أمام مقار الجيش ستة أيام متواصلة، فردت قوات الأمن بأعمال عنف أسفرت عن مقتل عدد من المحتجين، وفي يوم الخميس 11 أبريل أعلن الجيش نهاية حكم عمر حسن البشير.
بعد ثلاثة عقود من الحكم المطلق انتشرت أنباء إقالة الرئيس السوداني سفاح إقليم دارفور عمر حسن البشير في 11 أبريل في أعقاب موجة من الاحتجاجات الشعبية الصاخبة التي عمت شوارع السودان، ولم يحدث مثل هذا العمل في السودان منذ شهر أبريل من عام 1985 عندما سقط النظام العسكري للرئيس جعفر النميري وقبل ذلك في شهر أكتوبر 1964 عندما أجبر إبراهيم عبود على التنحي والتخلي عن السلطة.

وبعد استقالة البشير بوقت قصير أعلن خليفته محمد أحمد عوض بن عوف في بث حي على التلفزيون أنه سيترأس حكومة انتقالية وناشد المحتجين في الشوارع قبول منع التجوال الذي فرضه الجيش وذلك خدمة لمصلحة البلاد في المقام الأول.

ولكن المحتجين الغاضبين الذين أمضوا ستة أيام في خيام أمام مقار الجيش لم يتقبلوا هذه الدعوة واستمروا في موجة الاحتجاج من دون توقف، وأطلق المحتجون صيحات غضب تقول "لا نريد استبدال لص بلص آخر". ثم شدد المحتجون على تمسكهم بمواقفهم المعلنة وبعد غياب الشمس تحدوا قرار منع التجوال وتعهدوا بالاستمرار في حملتهم الى أن تتم تلبية مطالبهم الخاصة بتشكيل حكومة مدنية وأطلقوا صيحات تقول "لن نتحرك من مواقعنا"، وبعد أقل من 36 ساعة على اطاحة البشير استقال ذراعه الأيمن أيضاً ولكن تعيين شخصية عسكرية أخرى في مكانه كان يعني أن الصراع لم ينته بعد.

ثم حدثت نقطة التحول يوم السبت السادس من أبريل الجاري والذي يحمل دلالة خاصة لأنه يمثل ذكرى الثورة التي أطاحت حكم الرئيس السوداني الأسبق المطلق جعفر النميري في سنة 1985. وفي هذه الذكرى يخيم آلاف الأشخاص أمام مقار الجيش لستة أيام متواصلة، وقد ردت قوات الأمن بأعمال عنف أسفرت عن مقتل عدد من المحتجين، وأخيراً في يوم الخميس 11 أبريل أعلن الجيش نهاية حكم عمر حسن البشير.

لكن فرحة المحتجين تحولت بسرعة الى غضب عندما أعلن وزير الدفاع محمد أحمد عوض بن عوف أن الجيش سيتسلم حكومة انتقالية لعامين وأن حالة طوارئ ستُعلن لثلاثة أشهر مع حظر تجوال يستمر من الساعة العاشرة مساء الى الرابعة صباحاً، وظل صلاح غوش وهو رئيس الاستخبارات الوطنية في مركزه القديم، وقد أدت هذه الشخصيات العسكرية دوراً بارزاً في نظام البشير وفي القمع الوحشي للثورة في دارفور، وكان ابن عوف رئيساً للاستخبارات العسكرية خلال نزاع دارفور ويقال إنه قام بدور الوسيط بين النظام السوداني وما تدعى ميليشيات جنجاويد التي نفذت عمليات هجمات وحشية على المدنيين في دارفور بدعم من الحكومة، ويشتبه أيضاً في قيامه بتوجيه هجمات على قرى في دارفور، ويشتبه في أن صلاح غوش وهو مستشار الأمن القومي السابق خلال النزاع في دارفور ارتكب جرائم حرب خلال تلك الفترة، ومن منظور المحتجين شكل الرجلان كل ما لحق بالسودان من مصائب.

السقوط الثاني

وبعد انتشار أنباء عن أن البشير قد استبدل بأحد أتباعه أطلق المحتجون صيحة جديدة تدعو الى "سقوط آخر" ونجحوا خلال أقل من 36 ساعة، فاستقال ابن عوف من منصبه كرئيس للمجلس العسكري كما استقال بعد ذلك بوقت قصير صلاح غوش من منصبه رئيساً لجهاز الاستخبارات الوطنية، ثم أصبح الجنرال عبدالفتاح عبدالرحمن برهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي وتسلم منصب نائبه محمد حمدان داغولو "حميدتي". وكان هذا انتصاراً للمحتجين نظراً لأن برهان الذي كان يشغل منصب رئيس أركان القوات البرية لم يرتبط بوضوح بالوحشية التي شهدها إقليم دارفور. وقدم الجيش تنازلاً آخر الى المحتجين عبر وضع البشير في سجن كوبر الشديد الحراسة واعتقال إخوته.

وطالبت جمعية المهنيين السودانيين التي تمثل حركة المحتجين بفصل "حميدتي" من مكتب برهان والذي كان قائداً للميليشيا القبلية العربية في دارفور وحصل على دعم من الحكومة السودانية لاستخدام العنف من أجل قمع الانتفاضة، وقد انشق "حميدتي" بصورة مؤقتة عن الحكومة مع الآلاف من الجنود في سنة 2007 ولكن في مقابل المساعدات الحكومية عاد ثانية في عام 2008، ثم أصبح رئيساً لقوات التدخل السريع وكان يمثل بالنسبة الى المحتجين حلقة في دائرة عمر البشير.

الخطوة التالية

في غضون ذلك أعرب الكثير من المحللين عن خشيتهم من أن تتصاعد الحالة الراهنة وتتحول الى حرب أهلية دامية، ومن الممكن إذا قاومت المؤسسة العسكرية مطالب المحتجين واستمرت في استخدام العنف لقمعهم قد ينقلب صغار الضباط ضد كبار الضباط، ومن الممكن أيضاً أن يحمل الإسلاميون السلاح ضد المؤسسة العسكرية، وكانت هناك تقارير عن أعمال عنف في دارفور بين مهجرين بسبب الحرب ومتعاونين مع النظام القديم، وقد تدفع هذه الظروف العنيفة السودان الى حافة دولة فاشلة كما حدث في ليبيا واليمن.

وسيكون لذلك مضاعفات كارثية على الاستقرار الإقليمي، وفي حالة الفوضى مع تدفق السلاح بشكل حر فإن الميليشيات العابرة للحدود قد تستغل الوضع من أجل زعزعة دول مجاورة مثل تشاد التي تستقبل القبائل ذاتها المقيمة في دارفور، كما يمكن أن يؤثر ذلك على الدول الهشة التي تحاول التعافي من الحروب الأهلية القاسية مثل جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وسيضع ذلك المزيد من الضغط على أوروبا التي تخشى من تدفق موجة جديدة من اللاجئين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط.

السيناريو المصري

في غضون ذلك هناك أيضاً ما يعرف باسم السيناريو المصري الذي يظل الجيش فيه موحداً ويمسك بالسلطة بقوة، وفي مثل هذه الحالة لن يكون هناك ما يماثل ما حدث مع البشير، ولكن السؤال هو ما إذا كانت جماعات المحتجين التي قدمت في الأساس هذا القدر من التضحية ستقبل مثل هذا السيناريو، وما الثمن الذي يمكن أن تقبل بدفعه من أجل تحديه؟

السيناريو الثالث والأكثر إيجابية يظل ممكناً، وقد أثبتت مواظبة المحتجين حتى الآن أنها استراتيجية ناجحة ضد نظام قمعي مطلق، والزخم الآن بيد المحتجين وهم يعرفون إرث شهري أكتوبر 1964 وأبريل 1985 عندما أطاح احتجاج قصير شعبي حكومة عسكرية وأعقب ذلك إصلاحات ديمقراطية. وفي هذه المرة أيضاً استمر المحتجون في العصيان المدني والمسيرات والاعتصامات طوال أشهر، وقد أجبروا بديل عمر البشير على الاستقالة بعد يوم واحد.

ولا يمكن قول الشيء ذاته عن الاحتجاجات التي ظهرت فيما يدعى الربيع العربي في مصر، كما أن احتجاجات السودان كانت بعيدة عن العنف الى حد كبير، وهو ما حال دون تحولها الى حرب أهلية كما حدث في سورية، وفي ضوء هذا النجاح المبكر يسود الأمل في أن وصفة الثورة السودانية الفريدة سيكتب لها النجاح التام.

* إيلين روزنهارت

back to top