سرٌّ تعجز واشنطن عن إخفائه... داعش لم يُهزم

نشر في 31-03-2019
آخر تحديث 31-03-2019 | 00:00
مُسحت خلافة داعش عن الخريطة، لكنها قد تُستبدل سريعاً بنظام أكثر صلابة من الاضطهاد الجهادي والقمع الاجتماعي إذا واصل سياسيو المنطقة إهمال الأزمات السياسية، والاقتصادية، والأمنية التي تغذي اليأس والغضب اللذين يقودان بدورهما إلى التمرد الإرهابي.
 ناشيونال إنترست استغرقت العملية مقداراً من الوقت، الصبر، والسلاح فاق المتوقّع، ولكن بعد هجوم دام شهرين في قرية الباغوز الحدودية السورية المغبرة، أعلنت أخيراً القوات الديمقراطية السورية المدعومة من الولايات المتحدة ما كان ينتظره العالم: صارت خلافة داعش من التاريخ. لا شك أن عملية القوات الديمقراطية السورية النهائية للقضاء على بقايا الجيوب التي سيطر عليها داعش في الشرق الأوسط شكلت لحظة مميزة بالنسبة إلى ملايين العراقيين والسوريين الذين عانوا وحشية هذا التنظيم وتطرفه العنيف.

على نحو مماثل، تعرب الحكومات حول العالم عن فرحها العارم، ومن المؤكد أن ترامب، الذي عرض قبل أيام على المراسلين خريطة تُظهر صغر مساحة المناطق التي يحتلها داعش، سينسب على الأرجح كل الفضل إلى نفسه. أصدرت تيريزا ماي أيضاً بياناً وصفت فيه سقوط الباغوز بـ"لحظة تاريخية"، كذلك أصدر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس وماكرون تهنئتهما الخاصة للقوات على الأرض، أما المقاتلون الأكراد، الذين خاضوا الجزء الأكبر من القتال وخسروا العدد الأكبر من الضحايا، فتوّجوا نصرهم باحتفال عارم ترافق مع عرض وفرقة استعراضية وآلات موسيقية.

لا نستطيع بالتأكيد لومهم لتنعمهم بنصرهم هذا. كان الدرب بين داعش وهزيمة الخلافة طويلاً، وعاصفاً، ومليئاً بالعقبات، فقد أدت أربع سنوات ونصف السنة من القتال ضد الخلافة إلى تضحيات كبيرة من الجنود العراقيين، والميليشيات، والمقاتلين الأكراد على الجبهات. لقي عشرات الآلاف منهم حتفهم في المعارك، وعانى جهاز مكافحة الإرهاب العراقي (نخبة الجيش العراقي) خسائر بلغت 40% في معركة الموصل وحدها عام 2017، علماً أن هذه كانت المعركة المدنية الأكثر ضراوة منذ اقتحام الجنود الأميركيين الفلوجة قبل نحو 12 سنة، ولا ننسى بالتأكيد الأقليات الإثنية في العراق وسورية، التي تعرضت للسجن، والنفي، والتعذيب، والقتل، والبيع لأغراض جنسية. لا شك أن هؤلاء جميعاً كانوا يرجون سقوط الخلافة منذ زمن.

في صيف عام 2014، بدا تنظيم داعش أشبه بوحش عملاق يرهب العالم، فقد نجح مقاتلوه في إنزال الهزيمة بكتائب كاملة من الجيش العراقي في غضون أيام، مسيطرين على بعض المنشآت العراقية الأكثر أهمية، كذلك حُمّلت فيديوهات لعمليات قطع رؤوس، بما فيها رؤوس عدد من الأميركيين، بطريقة متقنة وعالية الحرفية على شبكة الإنترنت وبُثت على شبكات الكابل الإخبارية في الولايات المتحدة. بلغ أيضاً محاربو داعش بأقنعتهم السوداء شواطئ ليبيا وهددوا بنقل القتال إلى روما.

لكن هذا التنظيم عينه ما عاد اليوم سوى مجموعة إرهابية من بين مجموعات كثيرة تنتشر في الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وجنوب آسيا، كذلك تقلصت منطقة داعش، التي وصلت مساحتها إلى 88 ألف كيلومتر مربع تقريباً، لتبلغ اليوم الصفر. ويقبع عدد من الإرهابيين أنفسهم، الذين تسببوا لكثيرين بكل هذا الأسى والبؤس، في منشآت اعتقال مؤقتة وقد لطخ التراب وجوههم المكفهرة. أما عشرات آلاف المقاتلين الأجانب الذي تركوا حياتهم السابقة في الولايات المتحدة، وأوروبا، وآسيا وجاءوا ليعيشوا في الخلافة، فقد علقوا اليوم في متاهة قانونية بعدما نفتهم حكوماتهم معتبرة إياهم خائنين.

تبدو كل هذه أخبارا جيدة، لكننا نرتكب خطأ فادحاً إذا افترضنا أن تدمير الخلافة على الأرض يعني القضاء على داعش كتنظيم إرهابي، فهاتان مسألتان مختلفتان تماماً، وقد سلّط المجتمع الاستخباراتي الأميركي الضوء على هذه النقطة في تقييماته وشهادة أعضائه أمام الكونغرس، فربما سقط داعش، إلا أنه لم ينتهِ.

لا شك أننا نشهد اليوم تحوّل داعش من شبه دولة إلى مجموعة متمردة باهتة نسبياً، لكن الأمم المتحدة بحد ذاتها تقدّر أن نحو عشرين ألف مقاتل إلى ثلاثين ألفاً يتربصون في القرى، والصحارى، والسهول في سورية والعراق، وفي الوقت عينه أقرت وزارة الدفاع الأميركية في تقارير سابقة أنها لا تستطيع تحديد عدد المقاتلين المتبقين في صفوف داعش بدقة، كذلك تقدّم مؤسسة السياسة الخارجية في واشنطن أدلة عدة تدعم الطرح المؤيد لضرورة بقاء الجنود الأميركيين على الأرض في المستقبل القريب نظرا لكثرة المتعاطفين مع داعش الذين ما زالوا على قيد الحياة، فإذا سحبت الولايات المتحدة جنودها من شمال شرق سورية أو قلصت انتشارها في دولة العراق المجاورة، يعتبر هذا الطرح أن "داعش" سيحظى بعفو شامل في وقت تنقض يد من حديد على عنقه. بالإضافة إلى ذلك، لا يملك الجنود الأميركيون الصلاحية أو القدرة على معالجة عداوة إثنية عمرها عقود بين حكومة تركية في أنقرة تنظر بارتياب شديد إلى النوايا الكردية ومجتمع كردي يعتبر الجيش التركي خطراً يهدد وجوده بحد ذاته.

كذلك لا يستطيع الجنود الأميركيون إرغام نظرائهم في قوى الأمن العراقية على الامتناع عن تنفيذ عمليات مسح شاملة في الأحياء السنية، حيث يُعتقل الشبان لأقل اشتباه أو حتى أحياناً من دون أي أدلة. بكلمات أخرى، لا يمكن لنشر القوة العسكرية الأميركية معالجة أي من الأسباب الجوهرية التي أدت إلى ظهور داعش في المقام الأول: الفساد المستشري، والخدمات العامة المريعة، وجشع المؤسسات الأمنية ووحشيتها، والبيروقراطيات المنتفخة التي تشكل برامج توظيف لخدمة مَن يتمتعون بعلاقات جيدة أكثر منه منشآت عامة لخدمة المجتمع بأسره، والقادة السياسيون الذين يؤلبون المجتمعات الإثنية والطائفية في أممهم بعضها على بعض بغية البقاء في السلطة. يستطيع ترامب نظرياً نشر مليوني جندي أميركي في الشرق الأوسط لفترة غير محددة، ولن يكون لهذه الخطوة سوى تأثير هامشي في مشاكل المنطقة الرئيسة. نتيجة لذلك، يشبه إبقاء الجيش الأميركي إلى ما لا نهاية في قواعد على طول الحدود العراقية-السورية من الناحية الجيو-سياسية وصف مسكّن ألم لمعالجة ورم. صحيح أن هذه الخطوة تمد المريض براحة فورية، إلا أنها لا تحول دون نمو الورم.

مُسحت خلافة داعش عن الخريطة، لكنها قد تُستبدل سريعاً بنظام أكثر صلابة من الاضطهاد الجهادي والقمع الاجتماعي إذا واصل سياسيو المنطقة إهمال الأزمات السياسية، والاقتصادية، والأمنية التي تغذي اليأس والغضب اللذين يقودان بدورهما إلى التمرد الإرهابي، ولكن من المؤسف أننا لم نرَ حتى اليوم أي أدلة تُظهر أن الحكومات العربية تعلّمت هذا الدرس.

* دانيال ديبيتريس

* «ناشيونال إنترست»

back to top