السلطان «أورنجزيب»... والخليفة الأموي (1-2)

نشر في 27-03-2019
آخر تحديث 27-03-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر تساءلنا في مقال سابق، لمَ تنتصر "الحركة الإسلامية" بأحزابها وجماعاتها المجاهدة؟ ولمَ تفشل أو تُعتقل أو تُقتل في محاولتها، ولمَ يتعثر بناؤها سياسياً واقتصادياً حتى لو نجحت، في حين تصمد وترتقي دول ومحاولات ومشاريع سياسية أخرى غير إسلامية، كما نرى في أوروبا وآسيا، وكما نجحت في إسرائيل؟

ولمَ رغم هذا الإخفاق كله، لا يتساءل أنصارها وأعضاؤها أين الخطأ؟ ولمَ تفشل؟ ولماذا جانبنا التوفيق؟

خيبة العمل الإسلامي وتعثره وعدم قدرته على اللحاق بالعصر في أغلب الأحوال حكاية طويلة وظاهرة متكررة في دول عربية وإسلامية لا حصر لها، وفي أحداث ما سُمي "الريبع العربي" ابتداء من 2011، حيث امتطت الموجة الثورية واعتلت متون المتظاهرين وتغلغلت في الصفوف، وحرّفت المسارات، وأدخلت المسيرة في طرق مسدودة أو صراعات مسلحة دامية.

وككل تحرك ضخم كان من المتوقع أن تصطدم بعقبات، ولكن أما كان من المنطق والمتوقع أن تحقق هذه الجماعات الدينية، والتي تكاد تحتكر النصرة القدرية والعون الغيبي كما تقول، إنجازات أكبر، وتجني انتصارات أوسع؟

وقد نطرح هنا سؤالا فلسفيا أو استيضاحاً في مجال "علم الكلام" حول الظاهرة، فنقول: هل الدعوة التي تحمل "طابعاً إسلامياً"، مضمونة النجاح أكثر من الدعوات الأخرى التي نراها نجحت بشكل باهر في دول عديدة؟ قد تكون الإجابة بالنفي، وهذا غير مفهوم وغير منطقي و"مناقض" فيما يبدو للنصوص الدينية، التي تعِد "الدعاة" والمجاهدين" ضد "الباطل" بالنصر المبين.

وإذا كانت الإجابة بالإيجاب وبنعم واثقة فإننا نرى ونعايش منذ فترة ليست بالقصيرة ما يعارض ذلك من مظاهر فشل الجماعات.

ولو تأملنا أحداث التاريخ البشري أو الإسلامي، لما وجدنا صاحب دعوة الحق والعدل ينتصر دائماً، وقد تقوم دولة أو سلالة أو خلافة، ثم لا تستمر مهما كانت طبيعتها الدينية وإخلاصها، أو يحل محلها نظام ديني جديد، كما أن التاريخ مليء بتجارب ومآس لا حصر لها، عاشها دعاة دين وجهاد، منذ القرن الهجري الأول إلى اليوم، منهم من قُتل ومنهم من سُجن أو اختفى قبل أن يحقق أهدافه، فلماذا؟

وكانت الخلافة الراشدة أول أنظمة الحكم، وقد حكمت نحو ثلاثين عاما، وسرعان ما تلتها صراعات وحروب دامية، وتقدر المراجع التاريخية ضحايا "حرب الجمل" سنة 656م- 36هـ بنحو عشرة آلاف بمن فيهم "طلحة" والزبير". و"حرب صفين" بين الإمام علي ومؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان بعد حرب الجمل بعام، بما لا يقلّ عن سبعين ألف مسلم.

(موسوعة 1000 حدث إسلامي، عبدالحكيم عفيفي، بيروت 1997، ص 45-46)

ويعتبر الكثيرون فترة حكم الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز تكملة لحكم الخلفاء الراشدين، ويقول المرجع نفسه، "لم يعمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز طويلا، فقد استمر حكمه حوالي عامين مات بعدها فجأة عن عمر يناهز أربعين عاما"، ويضيف العفيفي في المرجع نفسه حول وفاته قائلا: "والحقيقة أن موته المفاجئ هذا ربما يدل على أن بعض الأمويين وخاصة من أسرة عبدالملك حاولوا قتله حتى يعود الحكم إليهم مرة أخرى، وهناك أسباب ربما تؤيد ذلك، فقد صالح عمر بن عبدالعزيز جميع أعداء الأمويين سواء من الشيعة أو من بني هاشم، وأعطى الناس كافة حقوقاً متساوية أكانوا عرباً أم عجماً، ثم إنه أمر بأن تكون غنائم المسلمين من الغزوات للمسلمين على أن يكون خمسها لبيت المال وليس لبيت الخليفة الأموي كما كان الحال قبل استخلافه، كذلك ذُكر أن عمر لم يكن يود أن يخلفه يزيد بن عبدالملك لأنه يميل إلى اللهو والافتتان بالدنيا، إن مثل تلك الأسباب ربما كانت دافعاً لاغتياله بالسم وتعيين يزيد بن عبدالملك في شهر رجب من عام 101 للهجرة". (ص 73)

أثنى المؤرخون المسلمون والفقهاء على الخليفة عمر بن عبدالعزيز واعتبروا حكمه من أفضل نماذج الحكم الإسلامي الصحيح، كما لقيت فترة خلافته إشادة واسعة في كتب الجماعات الإسلامية المعاصرة كالإخوان والسلف وآخرين.

وممن دافع عن الخليفة عمر بن عبدالعزيز بقوة ونفى عنه ما يتهم به من قبل بعض المؤرخين من سذاجة سياسية، ومن محاولة لتسيير أمور الدولة بالورع والتقوى د. يوسف القرضاوي.

يقول د. يوسف القرضاوي، مفكر الإخوان المسلمين الأبرز في هذه المرحلة، "اتفقت الأمة كلها على أنه لم يأت بعد الخلفاء الراشدين خير من عمر بن عبدالعزيز، ولهذا سمّوه خامس الراشدين، وعدّوه مجدد المئة الأولى، وعدّه بعضهم مهدي الأمة، وهذا الإجماع ليس لكثرة صيامه وقيامه فحسب، بل لعدالته وتعففه عن المال العام، وحسن إدارته وسياسته، التي أدت إلى رخاء لا نظير له، رغم قصر مدته".

ويقول د. القرضاوي في مكان آخر: "لقد كان ابن عبدالعزيز مؤمنا كل الإيمان بأن العدل هو أساس الدول وسناد الحكم، وحارس الملك، وليس هو الجبروت والقوة المادية التي عامل بها بعض ولاة بني أميمة الناس".

(تاريخنا المفترى عليه، القاهرة 2008، ص35-39)

ويقتبس المؤرخ محمد كرد علي إشادة "ابن الجوزي" بالخليفة الأموي، ويقول إن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أمصار الشام "أن يرفعوا إليه كل أعمى في الديوان أو مقعد أو به فالج، أو من به زمانة تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فأمر لكل أعمى بقائد، ولكل اثنين من الزمنى بخادم. وأومر أن يرفعوا إليه كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده الديوان، فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالسوية، وفرض للعوانس الفقيرات، وكان لا يفرض للمولود حتى يفطم، فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم على الفطام، فإننا نفرض لكل مولود في الإسلام".

(الإسلام والحضارة الغربية، ج2 القاهرة 1959، ص 182- كلمة "الزُمنَى" جميع "الزمين" المصاب بالعاهة)

ومن الذين درسوا الدولة الأموية دراسة عميقة المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن Wellhausen (1918-1844 في كتابه المعروف "تاريخ الدولة العربية"، القاهرة 1958، وقد جاء فيه عن غربيين آخرين ممن درسوا مرحلة حكم الخليفة عمر بن عبدالعزيز، فكان ما جاء في كتاب المستشرق "فون كريمر" Von Kremer عن الخليفة وتأثير قراراته على الدولة الأموية.

ونحن فيما يلي ننقل اقتباسا تحليليا مطولا من الكتاب، خاضعا للنقاش والأخذ والرد.

يقول "أ. موللر" في كتابه:" تاريخ الإسلام في المشرق والمغرب"، الجزء الأول، نقلاً فيه تصرف عن كتاب "فون كريمر المسمى "تاريخ حضارة المشرق". كان ذهن "عمر بن عبدالعزيز "يحكم عليه سلطان الدين، بعيدا عن كل إدراك لما تقتضيه الحكمة السياسية. وإنه وإن كان لا يمكن النزاع في أن بعض ما وضعه من نظم قد أدى إلى تقوية روح الإسلام في ذاته تقوية كبيرة، فإن كل ما فعله يكاد يكون قد ساعد في الجملة على إفساد نظام الدولة من أساسه، بعد أن كانت قد أصبحت دولة دنيوية. والرومان، وهم أكفأ الشعوب التي عرفها التاريخ في مسائل السياسة الكبيرة، إنما قرروا المبدأ الذي قرره عن علم، وهو أنه لا دولة يمكن أن تعيش إلا بالوسائل التي أدت إلى قيامها. أما "عمر بن عبدالعزيز" فقد انصرف عن الأصول المتمشية مع الواقع والتي وضعها خلفاء الأمويين بعد عصر معاوية، وأراد أن يستعيض عنها بتحقيق مبادئ مثالية استمدها من القرآن والحديث، حتى ولو كان هذا العمل الخليق بالثناء لا يمكن تنفيذه إلا على أساس علم غير كامل بالظروف الواقعة!".

ويضيف أن الخليفة ألغى قانون "الحجاج"، الذي كان يقضي بأن يدفع من يدخل في الإسلام من أهل الذمة الجزية التي كانوا يدفعونها من قبل، وذلك لتلافي النقص فيما يدخل إلى بيت المال. وكان الخليفة "قد قرت عينه بأن يرى جحافل المؤمنين قد زادت ملايين في وقت قصير. وحتى لو كان دخولهم نفاقا في بدايته فإنه يجب ألا ننسى أن الشريعة الإسلامية كانت من أول الأمر تقضي بالموت على من يرتد عنها، وعلى هذا كان ارتداد من أسلم مستحيلا، وبعد ذلك سيكون معظم الجيل الثاني على الأقل مؤلفا من مسلمين صادقين، لذلك فإن أغلبية المؤمنين بالله بالنسبة إلى غيرهم قد زادت في الحقيقة بفضل هذا الأمر الذي أصدره "عمر" زيادة كبيرة، ولكن أصاب الخزانة من جرائه نقص كبير".

تاريخ الدولة العربية، القاهرة 1958، حاشية ص 263).

back to top