جزء مؤلم من حكاية

نشر في 25-03-2019
آخر تحديث 25-03-2019 | 00:01
 فوزية شويش السالم جزء مؤلم من حكاية عنوان آخر رواية صدرت للكاتب السوداني المتميز بكتابات الواقعية السحرية، أمير تاج السر، ملك السرد اللامتناهي، سيطرة وقدرة على اللعب بخيوط الصعب الذي يبدو سهلا بيد اللاعب المتمكن بفتل حركة خيوطه، وسهولة غزلها وحياكتها وغرز إبرتها بدون أي خطأ كان بمكانها أو زمانها، لاعب ونساج شاطر يملك مخيلة غير محدودة بموانع ولا سدود، تمضي عابرة بسلاسة أحراش تشابكاتها ومطبات غرزها، حتى تنتهي من نسيجها الأسطوري الذي أجادت نسج حياكته وأحكمت حبكته.

العنوان لا يحيل إلى أي ألم كان مثلما توقعت حتى نهايته، ربما أكون قاسية أكثر من اللازم، أو تنقصني مشاعر التعاطف وكسرة الخاطر التي لم تترك لي شخصيات أمير تاج السر أي ذرة من التعاطف معها، فهي شخصيات محنطة بالشر والإجرام، هكذا هي مخلوقة لنوازع الشر فقط، ومنزوع منها خيرها بالتمام.

بطل الرواية قاتل بحسب الطلب دون أن يعرف ضحاياه، ومن غير أن يكون بينه وبينهم أي عداوات تتطلب القتل، هو قاتل بالأجرة، أجاد أمير تاج السر تحليل نفسيته وتكوينه المبني على عنف الشر بلا أي سبب يدفع إلى ذلك التكوين، هذا هو هبة الطبيعة بكل تقلباتها وتجلياتها.

أمير تاج السر حكاء فظيع له قدرة هائلة جبارة على التخييل والقص القديم، ما يوازي عوالم ألف ليلة وليلة، قدرة على إنشاء عالم غير واقعي بكامله مثل بناء مدينة بسمائها وأرضها وأُناسها وحيوانها وطيرها وغاباتها وكل من دب على أرضها، من أين يأتي بهذه القدرة اللانهائية لتشييد عالم افتراضي لا واقعي بكل ضجيج الحياة النابض فيه، لدرجة تشعرك بوقع حوافر الحمير ورائحة العرق والغبار المتطاير وذعر المخنوق بالحبل وطقطقة عظام رقبته. هدير الحياة الدائر بمملكة قير ومدينة كونادي يشعر القارئ بكل نبضة فيه بالرغم من عدم واقعيته، وأنه ليس إلا تخييلا لواقع سحري أجاد أمير تاج السر تشييده وإعماره وبناءه.

عادة شخصية القاتل تكون لها دوافعها التي تدفعها لممارسة القتل، لكن بطل الرواية "مرحلي" ليست له أية دوافع للقتل، إلا أن صانع التمائم "ديباج الفارسي" كان بانتظاره منذ زمن طويل وهو يتشوق لظهوره، وهو ما حدث بالفعل حين التقى به وتوحد شره بشره، توحد الشرين معا، الراسم والخالق مع المنفذ الذي كشف الغطاء عنه حين جلاه وشحذه وقشع جوهر الشر المخفي بتركيب جيناته: "القاتل راهب. هكذا تعلمت وحدي ولم يعلمني ديباج أو أي أحد غيره. الفرق أن الراهب يتعبد بعزلته، بينما سارق الأرواح يستنجد بها من الافتضاح".

"في تلك اللحظة، وجدت أنني، بلا وعي مني، مرتبط بتلك الكآبة، لم أكن مكتئبا أبدا، لم أكن أبكي ولا أتحسر على شيء، ولا مرغت رأسي بالوحل، كما فعل البعض، لكن حماسة مذهلة امتلكتني لإيذاء كائن حيّ، أي كائن حيّ، حتى لو كان شجرة أو وردة، أو نملة بجحر، أو صرصور، أو حتى ذرة من طين يمكن أن تنبت زرع. كانت غرابة كبيرة. أن جسدي تشنج، يديّ امتلكتا طاقة غريبة، وساقيّ ركضتا في الدرب بلا أي وهن. كنت أشهق ولا أعرف لماذا أشهق، أبحث عن شيء غامض لا أعرف ما هو. وحين وصلت إلى بيتي وهدأت، كنت قد توصلت إلى سر كبير، سر أعرفه لأول مرة، وهو أنني لست عاديا. أنا طاقة شر، نعم طاقة شر مروعة، وغالبا ما كان ديباج يعرف ذلك، وأراد فقط أن يستوثق منه".

ذكرني "مرحلي" بطل الرواية بشخصية القاتل المأجور بقصة للكاتب المبدع محمد مستجاب، الذي صور شخصية قاتل إنسان عادي وبسيط، مهمة القتل عنده طبيعية، مثلها مثل أي وظيفة أخرى بالحياة، وكان متقبلها بدون إحساس بالعنف أو بالشر، مجرد عمل حاله حال أي عمل آخر بصعيد مصر، وحتى إنه يعيش حياة مفتوحة ومعروف لدى الآخرين كقاتل مأجور.

الاختلاف بينهما هو طريقة تفهم وضعهم ودوافعهم، والغريب ان كلا من القاتلين ليس لهما علاقة كره أو بغض أو انتقام وثأر من الشخصية التي يسرقون روحها، هما مجرد ممارسين لتنفيذ أوامر للقتل، وإن كانت شخصية أحدهما مليئة ومفطورة على الشر برواية أمير تاج السر، وشخصية القاتل في قصة محمد مستجاب القتل عندها وظيفة مقبولة.

back to top