وداعاً يا ناصر

نشر في 25-03-2019
آخر تحديث 25-03-2019 | 00:01
 ليلى العثمان سَمِعَتْ الصحراءُ صرخةَ ميلادكَ الأولى، وشهِدَ رملها الدافئ أثر أقدامكَ الصغيرة وأنت تلعب مع أقران طفولتك، شربتَ من حليب مطرها، وأكلتَ من (فقعها)، وفي بحرها ألقيتَ عَرَقَ تعبك، وهنئتَ بطعمِ (زبيدها وهامورها وميدها).

كبرت. وفي مدارسها تعلمتَ، ومن جامعتها تخرّجتَ. كبرت. وكان حِمْلُكَ من الأحلام يكبر معك.

كبرت. وإلى جيشها انضمَمْتَ وشهدتَ مأساة احتلالها ووقفت في صفوف جندها، لتدافع عنها بكل ما استطعتَ من حبٍ للأرض التي عليها وُلِدْتَ. ومع جيوشها أكملتَ المسيرة إلى السعودية يدفعك واجب الحب والوفاء، ثم عدتَ بعد النصر وحِمْلُكَ من أحلام الانتماء إليها يكبرُ ويترعرعُ، لأن جذورك مغروسة في ترابها، وفيتَ للأرض التي لم تُظلّلكَ بشجرة الأمان. كنتَ غريباً وخشيت أن تبقى غريباً، لكنك بقيت في الأرض التي ليست غريبة عنك. أحببتها، تمسّكتَ بها حتى آخر يأسٍ كان يُراودك، لكنك تذريه عنك على أملٍ طال انتظاره. لا تريد أن تيأس وتهجر مكاناً نمتَ فيه، بكيتَ وفرحتَ فيه، حلمتَ فيه، وثمار أحلامك تنمو معك، تزوجتَ وأهدتكَ الحياة مواليد تمنيتَ ألا يكونوا غرباء عن موطن ولادتهم، لكنهم ظلوا غرباء مثلك وعانوا ما عانيت.

كان إبداعكَ وحده المفرّ من يأسك، ينزف على أوراقك موهبةً سبحان من أهداها لك فأعطيتَ إبداعاً لا نظير له. شاركتَ كابن الوطن في أمسياتها الأدبية، وعلى منصّاتها قرأتَ شعراً مؤلماً يفهمه كل من فهم مأساتك أنت وأمثالك ممّن حملوا اسم الكويت على منصّات عربية كثيرة.

باسم الكويت شاركتم وأبدعتم، وحين بلغ اليأس بك حدوده القصوى هاجرتَ. حملتَ فتات يأسك وشعورك بأنك تخرج كحمامة تتوه عن عشها الذي رقدتْ فيه سنوات الطفولة والشباب. هاجرتَ والشوق لا يفتأ يداعب قلبك، فتشدّ الرحال إلى الكويت مرّة في كل عام (زوروني كل سنة مرّة) زيارة دائمة لمعرض الكتاب الذي لم تغبْ عنه، تأتي يحملكَ الشوق لعطر ورمل صحراء عشتَ فيها طفلاً ولمدينة شهدتَ بناء حضارتها بعينيك، ولأمسياتٍ تجمعك بأصحابك وأحبائك من الشعراء والكتّاب. يحملك الشوق فتأتي لتقتني كلّ جديدٍ يصدرُ لشبابٍ يبدأون رحلتهم في الكتابة على سلّمٍ ليس من السهل ارتقاؤه، لكنهم يحاولون بجهد ويصعدون، على أمل أن يكونوا ذات يوم مثلك.

كان المرض الخبيث قد بدأ يتسلّل إليك وكنت تحمل أوجاعه وتأتي. لا تريد أن يمنعك مانع عن إطلالتك السنوية. تتعكّزُ مرضك وتأتي (زوروني كل سنة مرّة)، وفي آخر زيارة وقفتَ فيها على المنصّة نزفتَ دمَ حزنكَ ويأسكَ وأبكيتَ قلوب وعيون كل من سمعوك وأحبوك، وربّما بعضَ من ظلموك. أحبّوك لدماثة خلقك، ولوفائك، ولإبداعك خاصةً الذي لا يشبهُهُ أيّ إبداع.

سافرتَ وفي قلوبنا وجعٌ أن تكون تلك هي الزيارة الأخيرة. ولا أدري إن كانت الأمنية الأخيرة لك أن تُدْفَنَ هنا في أرضٍ لم تجدَ فيها مكانكَ الذي يليقُ بمبدعٍ مثلك.

ودّعتَ الحياة وودّعناك بالألم والدموع. مُتَّ غريباً في أرض غريبة لم تشعر يوماً أنها وطنك الأثير، فقد كان هنا وطنك الذي شحّ عليك بقرار انتمائك له. ورغم ذلك لم تحقد ولم تكره. ظلّت الكويت هي الوطن الذي أعطيته إبداعك ولم يُعْطِكَ هويّته وصغّرَ خدّه عنك وعن سواك من المبدعين البدون.

لا تحزن. ولا تأسف. ولا تظن أبداً أن الوطن الذي نسيكَ حياً سينساك ميتاً، ففيه لك محبون وعشاق لإبداعك. ستظلّ حيّاً في قلوبنا يا ناصر. وسنظلُ نقرأ ونقرأ كل حرفٍ كتبته. سنذكركَ طبعاً، سنذكرك ولن ننساك أبداً.

نَمْ هادئاً حيثُ أنت. سيكون الثلجُ دثارَ قبركَ هناك. ومن هنا سنهديك خصلاتٍ من شمسنا لتدفئك وتُزيل عنك وحشتك.

وداعاً يا ناصر الظفيري.

back to top