إساءة تقدير قوة الصين

نشر في 06-03-2019
آخر تحديث 06-03-2019 | 00:00
مع توافر الحيز اللازم لمعالجة التباطؤ الحالي، لا تحتاج القيادة الصينية إلى التخلي عن استراتيجيتها الأطول أمدا، ففي حين يبدو أن التوصل إلى اتفاق تجميلي يركز على التجارة الثنائية وشيكا، فإن التباين الحاد بين الأسس الجوهرية التي يقوم عليها اقتصاد كلا البلدين يشير إلى حكم مختلف تماما.
 بروجيكت سنديكيت من الواضح أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب استخفت بقدرة الصين على الصمود واستهانت بعزيمتها الاستراتيجية، فمع تباطؤ الاقتصاد الصيني، تعتقد الولايات المتحدة أن الصين تتألم وتسعى يائسة إلى إنهاء الحرب التجارية، ولكن مع توافر الحيز اللازم لمعالجة التباطؤ الحالي، لا تحتاج القيادة الصينية إلى التخلي عن استراتيجيتها الأطول أمدا، ففي حين يبدو أن التوصل إلى اتفاق تجميلي يركز على التجارة الثنائية وشيكا، فإن التباين الحاد بين الأسس الجوهرية التي يقوم عليها اقتصاد كل من البلدين يشير إلى حكم مختلف تماما فيما يتعلق بتحديد من يملك اليد العليا.

صحيح أن اقتصاد الصين تمكن منه الضعف إلى حد كبير في الأشهر القليلة المنصرمة، ولكن خلافا للتصورات في الولايات المتحدة بأن هذا كان راجعا إلى نجاح استراتيجية التعريفة الجمركية التي فرضتها، فإن دورة الانكماش في الصين كانت راجعة بشكل كبير إلى أسباب ذاتية. فقد نشأت في مستهل الأمر بفِعل حملة تقليص الديون التي استهدفت تحييد المخاطر المتصاعدة المرتبطة بالنمو الاقتصادي القائم على الاستدانة المفرطة، وبوسعنا أن ننسب الفضل إلى صناع السياسات في الصين في التحرك القوي لتجنب متلازمة اليابان المخيفة. ليس أعباء الديون فحسب، بل أيضا تكاثر الشركات الميتة الحية وتحديات الإنتاجية المرتبطة بها.

نتيجة لهذا الجهد، اعتدل نمو الائتمان من نحو 16 في المئة في بداية عام 2016 إلى 10.5 في المئة في أواخر عام 2018. كما خلف هذا الجهد تداعيات ملحوظة على محرك الاستثمار الصيني الذي كان قويا ذات يوم، والذي يُعَد المكون الأكبر في الاقتصاد، لكنه تباطأ من النمو بنسبة 20 في المئة في أواخر عام 2013 إلى نحو 6 في المئة فقط في أواخر 2018.

من ناحية أخرى، بدأت تأثيرات التعريفات الأميركية تصبح موجِعة للتو، ففي حين انخفضت الصادرات إلى الولايات المتحدة بنحو 3 في المئة على أساس سنوي في ديسمبر 2018 ويناير 2019، استمرت الصادرات إلى بقية العالم في التوسع، وهو ما يرجع في الأغلب إلى قدرة الأسواق الناشئة على الصمود، وخاصة في آسيا. وبقدر ما هو من المحتمل أن الصادرات كانت محملة مسبقا قبل عطلة السنة القمرية الجديدة، إلى جانب زيادات أخرى محتملة في التعريفات الأميركية، فبوسعنا أن نتوقع بعض التراجع. ورغم أن هذا ربما يخفف من توقعات الأمد القريب، فمن الصعب أن نعزو التباطؤ في الأشهر القليلة المنصرمة إلى الصادرات.

في سعيها إلى التحوط لهذه المخاطر، سارعت الصين إلى استغلال ميزتها الجوهرية: امتلاك قدر أكبر كثيرا من المرونة السياسية مقارنة بالاقتصادات الغربية، التي بلغت الحدود القصوى للتحفيز المالي والنقدي، فقد أدى خفض متطلبات الاحتياطي خمس مرات في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع الإقراض المصرفي وزيادة نمو الائتمان في أوائل عام 2019، وينبغي لهذا أن يدعم تحسن النشاط الاقتصادي الإجمالي بحلول منتصف العام.

على النقيض من هذا، كان الاقتصاد الأميركي أكثر ميلا إلى الزخم القصير الأمد، فبفضل التخفيضات الضريبية الضخمة في أواخر عام 2017، ارتفع النمو الاقتصادي إلى نحو 3 في المئة في عام 2018، أي بوتيرة أسرع بنحو نقطة مئوية واحدة من الوتيرة الهزيلة بنحو 2.2 في المئة في السنوات الثماني السابقة، ولكن مع تضاؤل التحفيز المالي، لابد أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي، بما يتفق مع أحدث توقعات مكتب الميزانية في الكونغرس بزيادة لا تتجاوز 2.3 في المئة في عام 2019.

كما تتزايد مخاطر الانزلاق إلى نتائج أضعف، فلم يعوض ارتداد أسعار الأسهم الأميركي في أوائل عام 2019 عن الانحدار الحاد في أواخر 2018، والذي أدى إلى خسائر فادحة في ثروات الأسر وثقة المستهلك، مما عجل بانخفاض كبير في مبيعات التجزئة في ديسمبر، ومع ارتفاع مطالبات العاطلين عن العمل، وضعف قطاع الإسكان بالفعل، ووقوف الاقتصاد العالمي على أرضية مهتزة على نحو متزايد، والذخيرة المحدودة لدى بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، تبدو قدرة الاقتصاد الأميركي على الصمود ضعيفة على نحو متزايد.

يعمل احتمال تباين مسارات النمو الاقتصادي- التحسين المستحث بالسياسات في الصين والتباطؤ المقيد بالسياسات في الولايات المتحدة- على تعزيز تناقضات أشد خطورة بين العوامل الأساسية الطويلة الأمد، إذ كان معدل الادخار المحلي في الصين، عند مستوى 45 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2018، أكثر من مثيله في الولايات المتحدة (18.7 في المئة) بما يقرب من مرتين ونصف المرة، ورغم أن معدل الادخار في الصين انخفض من ذروته في عام 2008 والتي بلغت 52 في المئة، مع تسبب إعادة التوازن بقيادة المستهلك في إحداث تحول من فائض المدخرات إلى امتصاص المدخرات، فإنه لا يزال يشكل وسادة لتخفيف الصدمات تسعى الولايات المتحدة جاهدة إلى تأمين مثيل لها.

علاوة على ذلك، يذهب نحو 85 في المئة من إجمالي المدخرات الأميركية نحو استبدال المخزون العتيق البالي من رأس المال، وبالتعديل تبعا لانخفاض القيمة، يتبين لنا أن صافي معدل الادخار الوطني في الولايات المتحدة كان 3 في المئة فقط في عام 2018، أقل من المعدل الذي بلغ 6.3 في المئة في المتوسط في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، بل حتى أقل من مستوى الادخار الصافي في الصين، حيث المخزون من رأس المال أحدث إلى حد كبير وأقل احتياجا إلى الإحلال.

يؤكد هذا التباين في الادخار على فارق مهم في أسس الاستثمار في إمكانات النمو في كل من الاقتصادين، فقد كان مستوى الاستثمار في الصين في عام 2018 نحو 44 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أكثر من ضعف مثيله في الولايات المتحدة (21 في المئة). ونظرا لشيخوخة المخزون الرأسمالي في أميركا، فإن التباين بين صافي مواقف الاستثمار في تحسين القدرات في الاقتصادين كان أوسع كثيرا، ويبرز هذا الميزة النسبية التي تتمتع بها الصين في تمويل ضرورات النمو الأطول أمدا مثل التوسع الحضري، والاستثمار في البنية الأساسية، ورأس المال البشري، والبحث والتطوير، والتحول إلى الإبداع المحلي.

علاوة على ذلك، من المرجح أن تزداد فجوة الادخار بين أميركا والصين اتساعا في السنوات المقبلة، حيث يدفع العجز المزمن في ميزانية الولايات المتحدة المدخرات المحلية إلى المزيد من الانخفاض، وتتمثل مشكلة معقدة أخرى في أن الولايات المتحدة ستحتاج في تمويل إمكاناتها الاستثمارية المحدودة إلى إدامة عجز مزمن بالقدر نفسه في الحساب الجاري لتعزيز المدخرات المحلية الكاسدة. وبطبيعة الحال، مع عجز الحساب الجاري يأتي عجز تجاري ضخم متعدد الأطراف، مما يؤكد الحلقة الأكثر ضعفا في الاتفاق التجاري المعلق: الاعتماد على الحل الصيني الثنائي لمشكلة العجز الأكثر غدرا مع أكثر من 100 شريك تجاري.

الواقع أن القوة الاقتصادية نسبية في نهاية المطاف، ويبدو أن قوة الاقتصاد الأميركي الحالية زائلة، فقد بدأت قدرته على الصمود في الأمد القريب تتداعى بالفعل، وربما تزداد ضعفا في ضوء العوامل الأساسية الطويلة الأمد المثيرة للقلق. والوضع في الصين معكوس: فبحلول منتصف العام، ينبغي للضعف القصير الأمد أن يبلغ منتهاه، على خلفية من العوامل الطويلة الأمد القوية نسبيا، وسوف يأتي هذا الواقع لكي يعمل كنوبة صحيان خشنة للمفاوضين الأميركيين، الذين يسيئون تقدير قوة الصين والمزايا الجوفاء لاتفاق تجاري تجميلي.

* ستيفين س. روتش

* عضو هيئة التدريس في جامعة ييل، ورئيس مورغان ستانلي آسيا سابقا، ومؤلف كتاب «انعدام التوازن: الاعتماد المتبادل بين أميركا والصين».

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»

اقتصاد الصين تمكن منه الضعف إلى حد كبير في الأشهر القليلة المنصرمة
back to top