دستويفسكي...

نشر في 04-03-2019
آخر تحديث 04-03-2019 | 00:20
 د.نجم عبدالكريم كويت منتصف القرن الماضي- وما قبله- كانت حافلة بعشاق القراءة، وقد اشتهر بعض رموزهم كأحمد البشر، وعبدالعزيز حسين، وعبدالعزيز محمود، والمئات بل الآلاف غيرهم، وكذلك كانت المرأة الكويتية قارئة، وأتذكر أنني كنت كلما ذهبت إلى مبنى وزارة الإعلام القديم التقيت قرينة الصديق الدكتور سليمان الشطي، السيدة سارة الفاضل (أم علي)، حيث كانت تعمل بأحد الأقسام الثقافية، وكثيراً ما كنت أجدها شديدة الإعجاب والاهتمام بالأدب الروسي، وعلى وجه التحديد أدب دستويفسكي.

ومنذ ذلك الوقت اقتنيت ما ترجمه سامي الدروبي من أعمال دستويفسكي، ولا أبالغ إذا قلت، إنني قرأتها جميعاً عدة مرات.

***

• لأن معظم الأدب الروسي يحتوي على النزعة الإنسانية، بدءاً من بوشكين وغوغول وتشيخوف ودستويفسكي وتولستوي إلى باسترناك وافتوشينكو وسو لجنتستين، فهو أدبٌ محوره الأول والأساسي الإنسان بكل أوضاعه الغريبة وشقائه وآلامه.

• وما سطره يراع دستويفسكي لا يستشعره إلا من تعايش معه ومع أشخاصه في أعمق مشاعرهم ونوائبهم، أحياء يعيشون ويتحركون ويتواجدون أمام قارئهم بكل وضوح، فأثر دستويفسكي الدراماتيكي أعنف من أثر أي أديب آخر، ومع مصائب أشخاصه وخبراتهم كلها أحداث غريبة، مع أنك كقارئ لم تمر بها، وبالكاد تتصور أنك ستمر بها أو تعرف شخصاً مر بها، إلا أنك تتوحد بنفسك معها توحداً تاماً بأدق التفاصيل، تتبعها كأنك عشت تجربتها.

وبهذا يفتح دستويفسكي أمامك عوالم الكيان البشري على مصراعيه؛ عالم الواقع، وعالم اللامكان الغريب المستغرب المتواصل مع القريب المألوف، فلا أثر في أدب دستويفسكي لأي تكلف أو خيال، فالحياة تتكلم أمامك بمنتهى البساطة... مع أنني كثيراً ما بكيت وأنا مختطف بسحر ما كان يصوره لي دستويفسكي... إلا أنه كان يبعث في نفسي الأمل الحي مهما كان الموضوع الذي أقرأه بائساً، ومهما كان الظلم فيه قاسياً، فلا شيء عند دستويفسكي ينهي نفسه بنفسه، فكل شيء يدل على شيء أبعد منه، ففي أحلك الحالات وأشدها يأساً تجد حدثاً ما أو شخصاً ما يأتيك بنورٍ وعونٍ من عالم آخر، وهذا الحدث أو هذا الشخص هو الذي كنت تنتظره بلهفة.

فعالم دستويفسكي هو عالم الإنسان بشتى غرائبه ونبله وانحطاطه، وكذلك هو عالم ما فوق الإنسان، فعنده أن العالم الثاني لم يبزغ من العالم الأول، والعالم الثاني ليس تطوراً طبيعياً للعالم الأول، بل غزوٌ للعالم الأول من الخارج وسلاح هذا الغزو الرحمة والمحبة، فلا بطش فيه ولا أثر للإرغام ولا أثر للظلام، العالمان يتداخلان يتفاعلان في الزمان والمكان... عالم الإنسان في جوهره.

***

• شخصيات دستويفسكي: نبلاء فلاحون أسياد أرقاء عظماء صعاليك شريفات عاهرات محامون قضاة كهنة رهبان ورجال من وسطٍ صاخب في معترك الحياة شهوانيون زُهاد ملحدون مؤمنون... إلخ. وباختصار كل النماذج البشرية كانت تدخل في مصنع دستويفسكي لتصور لنا الإنسان منذ ولادته حتى وفاته.

***

• كم أنا حزين لأبناء هذا الجيل ممن أدمنوا الأجهزة الذكية التي تحقنهم بجرعات مكثفة من حقن الغباء التي باعدت بينهم وبين القراءة الجادة.

back to top