ساعة النجمة (1)

نشر في 04-03-2019
آخر تحديث 04-03-2019 | 00:05
 فوزية شويش السالم منذ فترة طويلة لم أقرأ فيها مثل هذا السرد الذي كتبته «كلاريس ليسبكتور»، وهي من أهم كاتبات البرازيل واللغة البرتغالية كما جاء في التعريف عنها أنها «كافكا الكتابة النسائية».

ولدت لعائلة لتوانية يهودية بمنطقة فولينيا غرب أوكرانيا في 10 ديسمبر 1920، وهاجرت مع عائلتها، وهي رضيعة، إلى البرازيل، وأبدت تميزا منذ كتاباتها المبكرة، وحازت الاعتراف الأدبي مبكرا مع صدور روايتها الأولى «قريبا من القلب البري»، وخلفت إنتاجا متنوعا ما بين القصص القصيرة والروايات وقصص الأطفال.

«ساعة النجمة» آخر رواية لها، إذ توفيت عقب صدورها بقليل، عشية عيد ميلادها السابع والخمسين، في التاسع من ديسمبر 1977.

ماذا أقول عن هذه الكتابة الملهمة الساحرة المختلفة، والتي لا تشبه أي كاتبة أخرى، ولا تتماثل مع أي كاتب كان.

كتابة متفوقة وصعبة، بعيدة تمام البعد عن الانتشار والقبول الشعبي، ما لم يكن من يقرأها شعبا نخبويا مفكرا متأملا محللا لقراءاته.

كتابة العمق الداكن والفكر المطموس بالغموض السوداوي، والروح الباحثة عن التئامها في رحلة التيه.

كتابةٌ كل سطر فيها يهيج الأسئلة، ويحرك التفكير الخامد، ويقلق الخمول والراحة، لتهز وجدان قارئها بيقظة حادة مستغربة، متسائلة مندهشة من فعل كتابة تشكشك، مثل الدبابيس، أحاسيس ومشاعر من يلتحم بها.

الكتابة التي أعشقها هي التي تجعلني أتوقف عند كل جملة فيها لأفكك معانيها وأتشبع بنشوتها، وأشعر برفيف قلبي للطيران من بهجة تجتاحه، ولذة مفعمة بإحساس متوهج، غامض غير مفهوم.

هذه هي الكتابة التي تعجبني وتلتصق بي، عسرة وليست يسرة، لكنها وقيدة للعقل والقلب والروح مجتمعين.

كتاب من القطع الصغير، بعدد صفحات لا تتجاوز الـ 106، لكن هذه الصفحات تأخذ بأنفاس القارئ عند كل مقتطف منها، لدرجة باتت فيها معظم صفحات الرواية محبوسة ما بين هلالين لرصد إعجابي بها، ومن قوتها سوف أضطر أن أقتبس مقتطفات كثيرة ليتمتع القارئ بها كما تمتعت، وإن كنت أتمنى أن يقرأها الجميع.

الغريب أن تقنياتها سابقة لعصرها، فهذه الرواية كُتبت عام 1977 بكل تعقيداتها الفنية، والتي ربما كانت بزمن كتابتها أول من كتب بهذا الشكل والأسلوب غير المعتاد.

الرواية من سطرها الأول تتشابك أحداثها بتقنية غريبة، فبطل الرواية هو المؤلف الذي يعاني حالة طلق لولادة متعسرة لبطلة روايته، التي تظهر له أصلا كأنها حقيقية وموجودة بالفعل في منطقة «السرتون»، من أفقر المناطق العشوائية في البرازيل، وتخاتله الفتاة بحقيقة وجودها، وتتشابك مع مشاعره وأحاسيسه والذكريات معها، فلا يعرف القارئ هل هي موجودة كحقيقة بهذا الحي أم أنها فقط تعيش في خيال المؤلف: «هل ستصبح هذه القصة جلطتي الخاصة يوما ما؟ وكيف أعرف إن كان بها أي قدر من الحقيقة؟ بالطبع هي قصة حقيقية وإن كانت مبتكرة، لدرجة أن كل واحد سيتعرف فيها على نفسه، لأننا جميعا واحد. ومن لم يكن فقيرا بالمال فهو فقير في الروح أو الحنين، إذ يعوزه شيء أثمن من الذهب، فهناك من تنقصه الرقة الجوهرية.

كيف يتأتى لي أن أعرف المجهول مما سيجري وأنا لم أعشه قط؟

يبدو أنني أعرف أدق التفاصيل عن فتاة الشمال الشرقي تلك، فأنا أعيش معها. ولما كنت خمنت الكثير من الأشياء عنها، فقد التصقت بجلدي مثل العسل الدبق أو الطين الأسود».

والكاتب هنا يخاتل القارئ، فلا يعرف هل الفتاة وجودها حقيقي أم أنه فقط يتوهم وجودها الذي هو بحقيقته ليس إلا معايشة لها بتفكيره، وهو أيضا يشرك القارئ معه بالتفكير والتحليل: «وأيضا إن كان هناك قارئ ما لهذه القصة فأنا أريده أن يتشرب الشابة مثل قماش مسح الأرضية الغارقة في البلل. الفتاة هي حقيقة، كنت لا أريد أن أعرفها. لا أعرف مَن أتهم، لكن يجب أن يكون هناك يدان».

كل جملة وكل فقرة بالرواية تستدعي التفكير والتأمل، لأنها ترسم رؤية فلسفية سوداوية عميقة للمكان وبؤسه المنعكس على كل من عاش فيه، بلغة بسيطة واضحة، لكنها محملة بمعاني رهيبة تسيطر وتتملك حواس القارئ ليغوص في طينها ويتشابك معه ليفصص قواه السوداء وتفاصيله الداكنة.

المكان هنا نابض يفرض حضوره، وخلاياه حية متدفقة لا متخيلة أو منقولة من فديوهات اليوتيوب أو باحث «غوغل»، وهذا ما أقصده بالمعايشة الحقيقية لروح المكان.

back to top