القول الفصل... فيما للأفغاني من أصل! (2-2)

نشر في 14-02-2019
آخر تحديث 14-02-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر من المؤرخين الذين تناولوا سيرة الأفغاني بالبحث أحمد أمين في كتابه «زعماء الإصلاح في العصر الحديث»، «القاهرة 1948، وقارن بين بعض البارزين من أعلام «الحركة الإصلاحية»، كما تنظر إليهم تحليلات كثيرة، فقال «لئن كان محمد بن عبدالوهاب يرمي إلى إصلاح العقيدة، ومدحت باشا يرمي إلى إصلاح الحكومة والإدارة، فالسيد جمال الدين يرمي إلى إصلاح العقول والنفوس أولا، ثم إصلاح الحكومة ثانيا، وربط ذلك بالدين».

ويقول المؤرخ «أمين» إن الأفغاني من أفغانستان، وإنه ينتمي إلى الحسن بن علي لا الحسين، وقد تعلم العربية والفارسية ثم تعلم الفرنسية وهو كبير، حيث «أتى بمن يعلمه الحروف الهجائية، ثم انفرد بتعليم نفسه نحو ثلاثة أشهر يحفظ من مفرداتها حتى استطاع أن يقرأ من كتبها ويترجم منها، ثم توسع في ذلك أثناء إقامته بباريس، ومع هذا فلم يحذقها كل الحذق». (ص61).

ومع تزايد اهتمام الأفغاني بالسياسة في مصر وتمام برنامجه، يضيف المؤرخ، «أنه انضم إلى المحفل الماسوني الأسكتلندي لأنه يضم كثيراً من علية القوم، ويضم طائفة من المصريين والأجانب»، ولكن ما أغضبه من الماسونية «أنه وجد أعضاء المحفل لا يحبون أن يتكلموا في السياسة. وأخيراً استقال من هذا المحفل، وأنشأ محفلا آخر تابعاً للشرق الفرنسي، وسرعان ما بلغ أعضاؤه أكثر من ثلاثمئة عضو من نخبة المفكرين والناهضين المصريين، وكان يدرس في بيته كتب الفلسفة والحكمة، يريد توسيع عقول الطلبة، وتفتيح آفاق جديدة في فهم العالم». (ص74).

لماذا ذهب الأفغاني إلى روسيا، وأقام فيها نحو ثلاث سنين؟ إن معلوماتنا عنه في هذه الفترة قليلة، يقول المؤرخ أمين: وأكبر الظن أنه شغل بشيئين: حال المسلمين الروس وعددهم نحو ثلاثين مليونا، «وكانوا يعاملون في عهد القياصرة معاملة ظالمة جائرة»، والأمر الثاني ما كان لروسيا من أثر كبير في سياسة الشرق ومناهضتها للسياسة الإنكليزية في آسيا وضغطها الشديد على الدولة العثمانية والعمل على إتعابها، وتقطيع أوصالها، ولكن هذه السياسة الروسية في رأي بعض ساسة العصر أفادت إنكلترا وفرنسا وإيطاليا أكثر مما أفادت روسيا «فلولا ضغط الروس على الدولة العثمانية ما سهل على فرنسا الاستيلاء على الجزائر وتونس، ولا على إيطاليا الاستيلاء على طرابلس، ولا على إنكلترا الاستيلاء على مصر».

لقد قصدتُ الآستانة سنة 1928، يقول المؤرخ أحمد أمين، بعد وفاة الأفغاني بإحدى وثلاثين سنة، «فرأيت واجباً أن أزور قبر هذا الرجل العظيم»، ويقول إن من اهتم بقبر الأفغاني، كما ذكرنا منذ قليل، «مستشرق أميركي حضر إلى الآستانة سنة 1926، ونقّب عن قبره حتى وجده، فبنى عليه تركيبة جميلة من الرخام، وأحاطها بسور من حديد، وكتب اسم السيد وتاريخ ولادته ووفاته، وفي وجه آخر كتابة تركية، يقول المؤرخ، تُرجمت لنا كما يأتي: «أنشأ هذا المزار الصديق الحميم للمسلمين في أنحاء العالم الخيِّر الأمريكي المستر شارلي كرين سنة 1926». وقفنا على قبره وقلت: «هنا رقد محيي النفوس، ومحرر العقل، ومحرك القلوب، وباعث الشعوب، ومزلزل العروش». (ص115).

وربما كان «الأفغاني» كل ما سبق في اعتقاد الكثيرين، ولكنه كان قبل كل شيء، وهنا المشكلة، فيلسوف الدكتاتورية الشرقية باسم «المستبد العادل»، وهو حلم راسخ في الثقافة العربية» لم يستطع حتى «الربيع العربي» على مدى سنوات بعد 2011، وعلى امتداد العالم العربي أن يغيره، فالكثير من المثقفين وعامة أنصار الديمقراطية من الشريحة المتوسطة انحسر جمعهم وتقلص عددهم، ومن بقي منهم التهمه التيار الديني.

يقول أحد كبار مفكري الليبرالية العربية في تقييم موقف الأفغاني آلبرت حوراني: «لم يكن الأفغاني دستورياً على أساس مبدئي، إذ كان مثله الأعلى للحكم مثل العقائديين المسلمين، حكم ملك عادل يعترف بسيادة الشريعة، بل كان بطبيعته أوتوقراطياً- مؤمناً بالفرد- ولجوجاً».

ويضيف الحوراني أن الأفغاني «صرف حياته بكاملها يفتش عن حاكم مسلم يمكنه بواسطته العمل على إحياء الإسلام، لكن آماله كانت تخيب كل مرة، إذ كان يعثر دوماً، إما على حاكم لم يطبع على العدل، أو على حاكم لا يعترف بسيادة الشريعة».

ومن جانب آخر لم يكن الأفغاني من أتباع المسالمة المعروفة لدى رجال الدين السنّة، «الذين كانوا يقولون بأن عليهم أن يحتجوا على ظلم الحاكم وأن يرضخوا له في الوقت نفسه، بل تبنى بالأحرى رأي الأقلية المؤمنة بحق الثورة، لذلك كان ينقلب بعنف على حكم حاكم يخيب أمله فيه».

ولم يكن بوسع الحكام حتى أصلحهم أن يحققوا ما رآه الأفغاني ضرورياً، وظل استنتاج الأفغاني أن خلاص الأمة لن يأتي على يد الحكام الصالحين وحدهم، فالإصلاح الحقيقي للإسلام لا يمكن أن يتم ما لم يرجع العلماء إلى حقيقة الدين، وما لم تقبلها الجماعة بكاملها وتعيش وفقاً لها، ولكن ما هي حقيقة الإسلام؟».

(الفكر العربي في عصر النهضة، 1977، ص147-150).

يقول د. محمد عبدالستار البدري في مقال بعنوان «الأفغاني شرارة الحركة التنويرية في العالم الإسلامي»، إن الأفغاني «كان بمثابة جسر فكري لنقل عوامل التقدم الى العالم الإسلامي وتوفيقها مع الهوية والعقيدة الإسلامية التي يعتبرها الأساس». ورغم ذلك، يضيف د. البدري، «فالأفغاني في واقع الأمر لم يقدم إلا رؤى وأفكاراً دون وضع هيكل عملي متكامل لهذا المشروع». (الشرق الأوسط 14/ 8/ 2018).

ونعود قليلاً إلى د. محمد عبدالقادر أحمد الذي يؤكد في كتابه المشار إليه عن أفغانستان، والذي يؤكد فيه نسب جمال الدين إلى هذه الدولة وإلى «أسعد آباد»، يؤكد أنه قابل فترة وجوده في تلك المنطقة بعض أقارب جمال الدين من أهله وممن يعرفون أقاربه، وبهذا تزداد قضية مولد الأفغاني تعقيداً بين إيران وأفغانستان... يقول د. أحمد في كتابه «وجمال الدين أفغاني لحما وصليبة من أسعد آباد عاصمة مديرية كنر من أعمال كابل عاش في العاصمة فترة صباه وتنقل بين الهند ومصر والسعودية. والفترة الزمنية التي تفصلنا عن وفاة جمال الدين ليست بعيدة، فقد توفي عام 1897م أي مضت على تاريخ وفاته حتى الآن ست وثمانون سنة. وهذا ما جعلني في الدورة التدريبية التي عقدت للمعلمين الأفغان في بيشاور ألح في السؤال عن أقاربه وأبناء بلدته، فوجدت من بينهم أقارب من العائلة وأكدوا لي جميعا مسألة مولده وجنسيته، وذكروا أن أباه كان يسمى بسيد صفده، وهناك تل صغير كان يوجد عليه بيته، وآثار بيته لا تزال قائمة، ويقال لهذا التل «صفدركت» وكت يقال للتل». (ص324). لا يزال ملف «السيد جمال الدين الأفغاني» المنتفخ بالكتب والدراسات يستقبل المزيد من المفاجآت. وقد كانت إحدى أبرز «الحملات» عليه ما نشرته مجلة «التضامن» الصادرة في لندن ابتداء من أبريل 1983 في سلسلة مقالات وصفت بالجريئة ضد الأفغاني، للباحث الناقد د. لويس عوض (1915-1990) بعنوان «الإيراني الغامض في مصر»، حيث صدرت تلك المقالات في أوج الصراع السياسي والإعلامي العربي- الإيراني، وإبان الحرب العراقية الإيرانية وأجوائها. ولا مجال لاستعراض ما جاء في هذه المقالات، ولكن د. أحمد يقول إن د. لويس عوض ذكر أن جمال الدين الأفغاني، «عميل لروسيا وأنه زعيم إرهابي، وندد باشتراكه في المحافل الماسونية»، وقد قوبلت آراء د. عوض، يقول د. أحمد، « باستنكار شديد على صفحات الجرائد المصرية».

(المسلمون في أفغانستان، ص324).

إن الحديث عن حياة وأفكار الأفغاني لا يمكن إيجازه في بضع مقالات، وقد لا نعرف أبداً بعض الحقائق الأساسية عنه، وثمة «خطوة جريئة» قد تساهم في حسم جانب منها، عن طريق أخذ عينة من جثمان الأفغاني بعد فتح قبره في كابل، لإجراء اختبارات الـDNA والحمض الوراثي، ومقارنة النتائج على عينات من أقاربه في إيران وأفغانستان، وبذلك يحسم الجدل! وقد تصبح مثل هذه الخطوة صعبة للغاية إن هيمنت جماعة طالبان على أفغانستان من جديد.

back to top