التشكيلي أمين الباشا غادر «مدينته» ليسكن ذاكرة التاريخ

• لوحاته حكايات لا تنتهي عن بيروت الحلم وألوان الفرح في مقاهيها

نشر في 13-02-2019
آخر تحديث 13-02-2019 | 00:02
للمرة الأولى منذ رأت عيناه النور في منطقة رأس النبع (1932)، يفارق الرسام التشكيلي أمين الباشا مدينته بيروت، ويترك ريشته ويغادر في رحلته الأبديّة ليسكن التاريخ والذاكرة، وتبقى لوحاته وحدها الشاهد على حضوره المتوهج الذي جعل حبيبته بيروت تعبق بألوان الفرح، وعلى حركة مقاهيها ولياليها العابقة بالسهر.
رحل صديق الشعراء والموسيقيين، بعدما زين دواوينهم بأجمل رسوماته، وصاغ الفصل الأخير من حكاياته الملونة عن المدن التي زارها في العالم، عن الأمكنة التي أحبها، عن الناس الذين عاش معهم.
في الخامس من فبراير الحالي، يمم الرسام التشكيلي أمين الباشا، نحو الأفق البعيد حيث لا ضفاف، لا حواجز، لا ألم، لا معاناة... عله يجد بعضاً من راحة ومن فرح، فقدهما في حياته مع أنه طالما رسمهما في لوحاته، لا سيما بعد وفاة ابنته بسبب المرض ولم يتعافَ من هذه الصدمة طيلة حياته.

رسم أمين الباشا الواقع ولكنه طرزه بالشعر والموسيقى، فبدا كأنه مستل من الحلم، ويلمس الناظر إلى لوحاته أن ثمة تناغماً موسيقياً في خطوطه وألوانه، ما يضفي على الأسلوب التجريدي الذي اعتمده جمالية خاصة تشبه صاحبها بشفافية ألوانها...

إلى جانب الأسلوب التجريدي، ركَّز أمين الباشا في رسمه على إبراز العلاقة بين الرسم والصورة الفوتوغرافية.

بين بيروت وباريس

أمين الباشا، أحد أبرز رواد الرسم التشكيلي اللبناني المعاصر، ترعرع وسط عائلة تعشق الموسيقى والرسم، وتفتحت عيناه منذ طفولته على المدى الأزرق اللامحدود الذي يمثله البحر، وعلى الحياة اليومية في بيروت ومقاهيها، فترجم مشاهداته في رسومه الأولى.

تلقى دراسته في الأكاديمية اللبنانية للفنون في بيروت في خمسينيات القرن الماضي وتدرب في محترفات كبار الرسامين اللبنانيين من بينهم قيصر الجميّل. في أوائل الستينيات سافر إلى باريس وأكمل دراسته في المدرسة الوطنية العليا للفنون بعد حصوله على منحة من السفارة الفرنسية.

سحرت باريس أمين الباشا بحضارتها وثقافتها وحياتها اليومية، فراح يرسمها ويرسم مقاهيها، متخذاً من التجريد وسيلة تعبير له، لكنه لم ينسَ حبيبته بيروت، وظلت ألوانها تشع في لوحاته الباريسية.

بين الستينيات والسبعينيات تنقل بين بيروت وباريس وأقام سلسلة معارض فيهما وشارك في معارض جماعية من بينها «صالون الحقائق الجديدة» في متحف الفن الحديث في باريس (1966).

مع اندلاع الحرب في لبنان، تأثر أمين الباشا بمشاهد الدمار التي سيطرت على بيروت وشوهت صورتها الجميلة، فتحولت لوحاته من مشاهد الفرح والحلم، إلى أخرى تعكس ذكريات الطفولة، وكأنه يرفض الحاضر من خلالها بما يحمل من بشاعة.

عام 1976، وتحت ضغط تفاقم الأحداث في لبنان، سافر إلى إيطاليا وهناك صمم لوحة فسيفساء كنيسة سان مارتينو(1979)، إلا أن حنينه إلى بيروت ظلّ طاغياً في عقله وفي فكره، فعاد وتحدى الحرب برسم الفرح وعرض لوحاته في غاليري دامو عام 1980.

عام 1987، سافر إلى إسبانيا وبهرته العمارة الأندلسية، فرسم نحو مئة لوحة أراد من خلالها إبراز نقاط التشابه بين العمارة الأندلسية والعمارة البيروتية...

معارض وجوائز

على مدى مسيرته التشكيلية الزاخرة، أقام أمين الباشا سلسلة معارض في لبنان والدول العربية وفي أنحاء العالم، وكانت له في الكويت حصة كبيرة، لا سيما في: غاليري سلطان (من 1973 إلى 1976)، ودار الفنون (2000- 2002)، والمجلس الوطني للثقافة والفنون (1999)، وغاليري بو شهري (2011). أما المعرض الأخير للوحاته فأقامه متحف سرسق في بيروت (15 سبتمبر2017 - 12 مارس 2018) بعنوان «تحية إلى أمين الباشا تقسيمات وألوان».

وصدرت له ثلاثة كتب أحدها يتضمن رسوماً عن بيروت أنجزها بين 1953 و2009.

حاز جوائز دولية من بينها: الجائزة الذهبية للمدينة الخالدة في إيطاليا عام 1976، وأعماله موجودة في متاحف عالمية من بينها معهد العالم العربي في باريس.

وسام الاستحقاق اللبناني الفضي

وسط حضور من أهل الفكر والثقافة في لبنان، شيع الفنان التشكيلي أمين الباشا، وقد قلده وزير الثقافة محمد داود باسم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وسام الاستحقاق اللبناني الفضي ذا السعف تقديراً لعطاءاته.

ترك غياب أمين الباشا أثراً لدى الأوساط المختلفة في لبنان ونعته أكثر من جهة رسمية ونقابية وفنية...

عبر حسابه على موقع «تويتر» غرد رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري: «رحيل الرسام أمين الباشا خسارة وطنية وعربية وعالمية لأحد أركان الثقافة والفنون في لبنان. بيروت ستفتقد ابنها الذي غزا العالم بريشته».

كذلك نعى وزير الثقافة الدكتور محمد داود أمين الباشا قائلاً: «برحيل الفنان الباشا، يفقد لبنان إحدى قاماته الثقافية وأحد أعلامه الكبار، هو الذي أثرى معارض الفنون التشكيلية المحلية والعالمية بأعماله الإبداعية ولوحاته الموجودة في متاحف عالمية، ومثَّل لبنان في «بينالي باريس الأول» (1958)، وفي «بينالي الاسكندرية» (1962)».

أضاف: «برع أمين الباشا في الكتابة إلى جانب الرسم، وكان يعتبر الفنون أشبه بعائلة واحدة، وله مؤلفات أدبية ومجموعات قصصية احتوى بعضها على رسوماته».

بدورها نعت جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت الفنان الرائد أمين الباشا أحد أعضائها الأولين منذ 22 أبريل 1957، ولفتت في بيان إلى أن «الباشا مثل الوجه الفني الحديث للبنان، إنجازاته عدة، أقام معارض في لبنان والخارج. برز في المائيات، وحاز جوائز دولية. أعماله منتشرة في المتاحف العالمية، وهو أحد أعلام الفن الذين سيخلدون في ذاكرة لبنان».

يلمس الناظر إلى لوحاته أن ثمة تناغماً موسيقياً في خطوطه وألوانه
back to top