فرنسا وألمانيا تروّجان نموذجين متنافسين من التعاون الدفاعي

نشر في 07-02-2019
آخر تحديث 07-02-2019 | 00:00
 إيكونوميست الطموح كبير، حيث تسبب إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل السنة الماضية بضجة كبيرة عندما أيدا تشكيل "جيش أوروبي"، مما أثار قلق البريطانيين المناهضين للوحدة الأوروبية والأميركيين الداعمين للتحالف عبر الأطلسي، ففي العاشر من يناير، ذهبت وزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين إلى أبعد من ذلك، معلنةً: "بدأ الجيش الأوروبي يتشكّل"، وفي 22 يناير وعدت معاهدة آخن بين فرنسا وألمانيا بتطوير "فاعلية أوروبا، وتماسكها، ومصداقيتها في المجال العسكري".

لا يمثل المال أيضاً مشكلة، فقد زادت الدول الأعضاء الأوروبية في حلف شمال الأطلسي (الناتو) إنفاقها السنوي الجماعي بأكثر من 50 مليار دولار منذ عام 2015 بعد سنة من غزو روسيا أوكرانيا، ويعادل هذا إضافة قوة عسكرية بحجم قوة بريطانيا أو فرنسا، وينبغي لترامب التنبه لذلك.

لكن ما يعجز الأوروبيون عن التوافق بشأنه هو كيفية دمج هذه القدرات المتنامية معاً واستخدامها، فقد أدت الرؤية المزدوجة عن مستقبل أوروبا العسكري إلى فيض من الخطط، ويقر الدبلوماسيون المخضرمون، الذين يملكون عقوداً من الخبرة في سياسة الدفاع الأوروبية، أنهم هم أنفسهم يشعرون بالحيرة أحياناً.

لنبدأ مع خطة التعاون الهيكلي الدائم (بيسكو)، وهي مجموعة من 34 مشروعا للدفاع في الاتحاد الأوروبي أُطلقت بضجة كبيرة في شهر ديسمبر عام 2017، فقد وافق الأعضاء الملتزمون بهذه الخطة على "القيام بالأمور معاً، والإنفاق معاً، والاستثمار معاً، والشراء معاً، والعمل معاً"، على حد تعبير مفوضة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغريني. ستحظى هذه الخطة بالتمويل من المفوضية الأوروبية، ولكن وفي حين رأت ألمانيا في بيسكو فرصة لإطلاق المشروع الأوروبي مجدداً، أعربت فرنسا عن انزعاجها لأن الشمولية تفوقت على الطموح.

وهكذا، فيما كان العمل جارياً على المراحل الأخيرة من بيسكو، طالب ماكرون خلال خطاب ألقاه طوال ساعتين في جامعة السوربون في شهر سبتمبر عام 2017 بأمر أكثر دسامة: "قوة تدخل مشتركة، وموازنة دفاع مشتركة، وعقيدة عمل مشتركة". وقّعت تسع دول مبادرة التدخل الأوروبية الناجمة في شهر يونيو عام 2018، واللافت للنظر أنها تشكّلت بمعزل عن الاتحاد الأوروبي، وهكذا رحبت بالدنمارك، التي اختارت البقاء خارج سياسة الاتحاد الأوروبي المشتركة في مجالَي الأمن والدفاع، وبريطانيا التي تنوي مغادرة الاتحاد الأوروبي بالكامل.

رأت ألمانيا، التي كبتت غضبها، في هذا الجهد محاولة فرنسية غير متقنة لجرّ آخرين إلى الحروب الإفريقية مع التقليل في الوقت عينه من دور الاتحاد الأوروبي، ورغم ذلك وقعت هذه المبادرة مخافة أن تزعزع أكثر المحور الفرنسي-الألماني المتقلق. توضح كلوديا مايجور من المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: "ما كانت ألمانيا تستطيع الرفض، إلا أنها كرهت هذه المبادرة". أما إيطاليا، التي تشكّل ثالث أكبر قوة عسكرية في الاتحاد الأوروبي، فلم تكن بالليونة ذاتها. على العكس، رفضت حكومتها الشعبوية المنتخبة حديثاً بكل بساطة الانضمام إلى هذه المبادرة.

في الواقع، أُسيء فهم كلتا هاتين الخطتين، إذ لا تؤسس بيسكو لجيش أو ائتلاف قائم، بل تمثل طريقة للحد من الازدواجية، وتوحيد الصناعات الدفاعية الوطنية، ووضع معايير لشتى المسائل، من طب ساحة القتال إلى الاتصالات العسكرية اللاسلكية. في المقابل لا تشكّل مبادرة التدخل الأوروبية قوة هجوم عشوائية، كما يوحي اسمها الكبير، بل تمثل إطار عمل يتيح للقوات المسلحة الطموحة في أوروبا العمل معاً في الأزمات المستقبلية، وناقش أعضاؤها سيناريوهات من الكاريبي إلى البلطيق، ولم يركّزوا على المناطق التي تحارب فيها فرنسا في إفريقيا.

من الناحية النظرية، لا تدعم بيسكو ومبادرة التدخل الأوروبية الأخرى فحسب، بل تشكلان أيضاً امتداداً للناتو، أما من الناحية العملية فالمسائل أكثر تعقيداً، وتحذّر مايجور من أن الدول الأصغر حجماً، مثل دول البلطيق، قد تتعرض لضغط كبير، لذلك قد يفضّل البعض المبادرة الفرنسية البراقة التي طرحها قصر الإليزيه بدل نظيرتها الأقل تألقاً التي قدمها الاتحاد الأوروبي.

تكمن أكبر مشكلة في الفجوة بين الخطاب المتعالي الذي يتبناه القادة السياسيون وتواضع محفزات الدفاع الأساسية هذه. لطالما تقبّل الاتحاد الأوروبي فكرة أن عليه التركيز على إدارة الأزمة (محاربة القراصنة والمهربين وأمثالهم) بدل الدفاع الجماعي (محاربة روسيا)، لذلك يبقى كل هذا الكلام الكبير مجرد كلام.

لكن هذا لا يعني أن الأوروبيين متخاذلون، إذ تشارك القوات الأوروبية في شتى المسائل من دوريات مكافحة القرصنة قبالة السواحل الصومالية إلى تدريب الجنود في جمهورية إفريقيا الوسطى. على سبيل المثال تشمل مهمة الاتحاد الأوروبي في مالي أكثر من 620 شخصاً من 22 دولة، وقد درّبت نحو 12000 جندي ماليّ، ولا شك أن هذا مذهل، ولكن ثمة هوة بين الخطاب السياسي الذي يلمّح إلى الخوف من تخلي الولايات المتحدة عن أوروبا، السياسة الفعلية التي لا تدعي أنها تملأ هذا الفراغ، والعمل الفعلي على الأرض الذي ما زال متخلفاً كثيراً.

كشفت دراسة أجراها أخيراً المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في بريطانيا والمجلس الألماني للعلاقات الخارجية في ألمانيا أن الاتحاد الأوروبي سيواجه صعوبة في تحقيق معظم طموحاته التي تشير إليها سياسته الأمنية والدفاعية المشتركة، التي تشكّل بدورها وثيقة متواضعة. ولا شك أن هذا الاتحاد سيجد نفسه في مأزق كبير إذا واجه أزمات متلاحقة أو إذا امتنعت بريطانيا، التي تقدّم ربع نفقات هذه الكتلة الدفاعية، عن المشاركة، أما المعارك الكبرى، مثل الحملة الجوية التي شُنت ضد ليبيا في عام 2011، فغير واردة البتة.

علاوة على ذلك، صحيح أن بعض مشاريع بيسكو مبتكرة ومهمة، مثل الطائرات من دون طيار المضادة للألغام وخطط مشاركة القواعد في الخارج، إلا أن بعضها الآخر يبدو مشكوكاً فيه، على سبيل المثال، ستدير اليونان وقبرص كلية تجسس مقترحة، إلا أن هاتين الدولتين تملكان روابط واسعة مع روسيا.

بدل العمل من خلال مؤسسات غير متقنة، يعمد أوروبيون كثر إلى عقد صفقات أصغر، ففي السنة الماضية عززت بريطانيا روابطها الدفاعية الثنائية مع فرنسا، وبولندا، وألمانيا، والنرويج، وإلى الشمال تعمل السويد والنرويج وفنلندا على دمج قواتها الجوية والبحرية، وفي الجنوب انضمت إستونيا إلى حرب فرنسا في مالي، لكن جيشاً أوروبياً حقيقياً ما زال بعيد المنال على ما يبدو.

back to top