السلطان عبدالحميد... وحلم الشيخ «أبو الهدى»

نشر في 31-01-2019
آخر تحديث 31-01-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر لعل من أوضح الأدلة على إيرانية جمال الدين الأفغاني، يقول المترجمان صادق نشأت وعبدالنعيم حسنين، أن بعض كبار مسؤولي وقادة أفغانستان يؤكدون ذلك!

فالأمير "عنايت الله خان"، عم ملك الأفغان الأسبق "أمان الله خان"، اعترف بهذا واقتنع بصحته، بل إنه في أثناء سفره من طهران إلى بغداد، حرص على النزول في قرية "أسد آباد"، وقد مكث فيها فترة اجتمع في أثنائها ببعض أفراد الأسرة الجمالية وزار قبور أجداد جمال الدين، "ولم يغادر أسد آباد، إلا بعد أن تأكد من أن جمال الدين أسد آباد إيراني، وقد روى هذا أكثر من واحد من الثقات على لسان الأمير، وهو أمر لا ينكره الأفغانيون أنفسهم".

ويتناول المترجمان اللهجة التي كان يتحدث بها جمال الدين الأفغاني اللغة الفارسية، فيقولان إن لهجة الأفغاني الفارسية "كانت إيرانية بحتة، ليس لها صلة باللهجة الأفغانية، كما أن أسلوب كتابته كان إيرانيا خالصا".

وينقل المترجمان المصريان عن الباحث الإيراني "تقي زاده" في كتابه "الرجال العصاميون"- مردان خود ساخته- أن انتساب جمال الدين إلى إيران أصح. ويقول "تقي زاده" إنه قابل العديد ممن لازموا جمال الدين من الإيرانيين، وكان يلقب نفسه صراحة بأنه إيراني. ومن الأشخاص الذين حدثوني عن جمال الدين، يقول تقي زاده، كاتب قفقازي معروف، أكد أن السيد جمال الدين "كان يتحدث اللغة التركية باللهجة الهمدانية".

ومن أدلة المترجمين في مقدمتهما لكتاب "جمال الدين الأسد آبادي" المشار إليه، أن جمال الدين كان أكثر اهتماما بإيران من أي قطر آخر، وكان يميل إلى إصلاح أحوالها، لتكون مركز إصلاح العالم الإسلامي، وكان جمال الدين يحاول دائما أن يدخل إيران كلما أُقصي عنها. ومما يرجح انتماءه لإيران، فيما يقوله المترجمان، "تمجيده للإيرانيين وإشادته بذكائهم، رغم ما لاقاه من الحكومة الإيرانية والملك الإيراني من اضطهاد. كما كان جمال الدين يصرح دائما بأنه لولا فساد الحالة السياسية في إيران لما غادرها مدة حياته، ثم حرصه العجيب على إصلاح هذه الحالة كلما زار إيران".

وكانت تصرفات جمال الدين في تركيا تثبت أنه إيراني، فأغلب من كان يجتمع بهم في إسلامبول- إسطنبول- كانوا من الإيرانيين المقيمين في تركيا، ولذلك، يضيف المترجمان، "فإن خصوم جمال الدين حينما أخذوا يناوئونه، ويدسون له، لم يجدوا شيئا يغمزونه منه إلا كونه إيرانيا شيعيا، وأنه يكذب ويدّعي أنه أفغاني سني حتى يجد له طريقاً في تركيا والأقطار الإسلامية السنية، وهذا ما فعله شيخ الإسلام "أبو الهدى الصيادي" في إسلامبول، فقد غمزه من هذه الناحية واستطاع أن يغير رأي السلطان فيه". (ص16).

سنكمل الحديث عن الأفغاني فيما بعد، ولنقف بعض الشيء مع شخصية "أبو الهدى الصيادي" العجيبة، الذي أدى دوراً خطيراً في البلاط العثماني في عهد السلطان عبدالحميد الثاني (1842-1918)، والذي حكم ابتداء من عام 1876 حتى عُزل عام 1909، بعد أن اشتهر بتعطيل الدستور وقمع معارضيه والتجسس على خصومه وغير ذلك. كان الشيخ "الصيادي" (1849-1909) ربما بمثابة "راسبوتين" الدولة العثمانية ومعاصرا لرجل الدين الروسي الشهير في البلاط القيصري "جريجوري راسبوتين" (1872-1916).

واسم "الصيادي" الكامل كما يورده "الزركلي" في كتاب الأعلام، محمد بن حسن وادي بن علي بن خزام الصيادي الرفاعي الحسيني، وكان له نفوذ عظيم في البلاط وتأثير واسع في العديد من القرارات آنذاك.

يقول "الزركلي" عن الصيادي مشككا في أمانته الأدبية: "كان من أذكى الناس، وله إلمام بالعلوم الإسلامية، ومعرفة بالأدب، وظرف وتصوف، وصنف كتبا كثيرة أشك في نسبتها إليه، فلعله كان يشير بالبحث أو يملي جانبا منه فيكتبه له أحد العلماء ممن كانوا لا يفارقون مجلسه، وكانت له الكلمة العليا عند عبدالحميد في نصب القضاة والمفتين".

ويضيف أن الصيادي كان من مواليد سورية: "ولد في خان شيخون (من أعمال حلب) وتعلم بحلب وولي نقابة الأشراف فيها، ثم سكن الآستانة، واتصل بالسلطان عبدالحميد الثاني العثماني، فقلده مشيخة المشايخ، وحظي عنده فكان من كبار ثقاته، واستمر في خدمته زهاء ثلاثين سنة، ولما خُلع عبدالحميد، نُفي أبو الهدى إلى جزيرة الأمراء في رينكيبو".

(الأعلام، الجزء 6، ص 324-325).

كانت الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر غاية في الضعف والتدهور بعد أن تحكمت بها علل سياسية واقتصادية وغيرها، وبخاصة بعد أن فقدت الكثير من أقاليهما في أوروبا إثر هزيمتها أمام روسيا القيصرية، وكان عبدالحميد الأول كذلك (1725-1789) قد خسر أجزاء من الدولة إثر هزائم حربية واتفاقية "كوجوك كنارجه" مع روسيا 1774، وبعد ثورات داخلية. اعتمد السلطان عبدالحميد الثاني على صفته الدينية كخليفة للمسلمين، وكانت الدولة العثمانية وإدارتها الدينية معادية للتيار السلفي بعد حرب الدولة مع الحملات الوهابية في الجزيرة العربية والتي أدت إلى تشجيع العثمانيين للجماعات والحركات الصوفية.

وكان مما قرب الأفغاني إلى السلطان عبدالحميد دفاع جمال الدين الأفغاني في دعوته عن فكرة توحيد العالم الإسلامي ضد الغرب والقوى الاستعمارية، حيث كان السلطان عبدالحميد من أبرز المدافعين عن الفكرة ذاتها تحت شعار "الجامعة الإسلامية".

يقول المؤرخ الأردني المعروف د.علي المحافظة عن مدى تفاعل السلطان عبدالحميد مع هذه الدعوة: "استغل السلطان العثماني عبدالحميد الثاني الدعوة إلى الجامعة الإسلامية خير استغلال، وكان قد ارتقى العرش عام 1876م في وقت كانت الدولة العثمانية تعاني ضعفا شديداً وتخلفا كبيرا في مختلف الميادين. وبعد عامين من حكمه هزمت الدولة على يد روسيا، فكان ذلك مبرراً لإلغاء مجلس النواب وتعليق الدستور العثماني الأول الصادر في بداية حكمه. وأصبح مطلق السلطة مستبداً بالحكم، فوجد في التشبث بفكرة الجامعة الإسلامية وسيلة لكسب ولاء الجماهير المتدينة والحصول على تأييد الدول الإسلامية له في صراعه مع الدولة الغربية.

وجمع عبدالحميد حوله الكثير من زعماء العرب ومشايخ الطرق الصوفية من الحجاز والشام والعراق ونجد واليمن ومصر وطرابلس وتونس والمغرب، وأجرى عليهم الأرزاق، وأخذ يوفد الرسل إلى جميع الأقطار الإسلامية داعية إياهم إلى الالتفاف حول "خليفة المسلمين عبدالحميد الثاني" للتخلص من خطر الدول الغربية".

(الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة، د.علي المحافظة، بيروت 1987ـ ص115).

وينقل الشيخ "محمود أبو ريّة"، صاحب كتاب "أضواء على السنة المحمدية"، في كتاب بعنوان "جمال الدين الأفغاني: تاريخه ورسالته"، القاهرة 1959، ينقل عن الكاتب إبراهيم المويلحي تفاصيل بداية العلاقة والتعارف بين السلطان عبدالحميد والصيادي، فيقول إن "أبو الهدى الصيادي" جاء إلى البلاط العثماني كأحد متصوفة الفرقة الرفاعية: "وفد أبو الهدى على الآستانة "وكان لا يلقب حينذ إلا بالشيخ" في آخر حكم السلطان عبدالعزيز- في زي أهل الطريقة، فأخذ ينشد على الذكر في إحدى التكايا ويضرب على الدف على رسم الطريقة الرفاعية التي هي طريقته- وكان له شعر مرسل كالرفاعية".

ويضيف المويلحي شارحا ظروف اتصال الصيادي بالسلطان أو الخليفة عبدالحميد فيقول: "كان سبب اتصاله بالسلطان عبدالحميد أن رأى السلطان رؤيا فقصها على أحد أصحاب الشيخ، فقال لجلالته- إني أعرف شيخا واسع المعرفة، له جانب مع الله فأمر السلطان بإحضاره، ففسر الرؤيا تفسيراً أعجب به السلطان فأحسن إليه". وفي قصر السلطان، صعد الشيخ الصيادي إلى غرفة خاصة تسمى "المابين"، وهي كلمة تطلق على الحجرة التي لها بابان، باب إلى جهة الحرم، وباب إلى جهة الخدم، وقال أبو الهدى الصيادي للسلطان "قد رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة أمس في الرؤيا فأمرني أن أبلغ عنه جلالة الملك الخليفة كلاما، وأن يكون ذلك مني إليه من غير واسطة، ولما علم السلطان بذلك خرج وأمر الشيخ أبا الهدى أن يبلغه بالواسطة ما أمره به النبي (ص) فامتنع، وقال: أنا أُمرت أن أبلغه ذلك مشافهة ولا يكون أحد بيننا، ولما قيل له إن السلطان لا يعرف العربية، انتظر يومين ثم صعد الشيخ وقال: إني الآن أتكلم اللغة التركية، فسألوه كيف ذلك؟ فقال: إن النبي (ص) جاءني في الرؤيا وتفل في فمي فتكلمت باللغة التركية، فدخل على السلطان وأبلغه الرسالة النبوية. ومن ذلك الوقت نال حظوة لدى السلطان لم ينلها أحد من قبله، وصار الوزراء والكبراء يقبلون يده". (ص141-142).

هل هذه قصة حقيقية أم من صنع خصوم الشيخ الصيادي؟ لعل هناك من يبحث ويفيدنا مع القراء ولا مجال لأن ننتقل إلى سيرة شخصية عثمانية أخرى!

back to top