جورج غنيمة: شعري «مراياي» على خشبة الأبجدية العربية

• جديده ديوان حول المكان والزمان في البعد الماورائي للقصيدة

نشر في 29-01-2019
آخر تحديث 29-01-2019 | 00:00
في ديوانه الجديد «وحيداً يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر» (دار الفارابي) يسافر الشاعر جورج غنيمة، بلغة النشيد تارة ولغة الوتر طوراً ولغة النايات تارة أخرى، نحو شاسعات المواجع الفردية والعامة.
يأتي هذا الديوان بعد مجموعات شعرية ثلاث: «على أطباق من ورق» (2002)، وفيه استبطان لمعاناة الإنسان في تفاعله الوجداني مع عناصر الوجود والذات ومسار المجتمع في السلم والحرب. «محابر الغمام ونايات الريح» (2008)، يستكمل فيه استبطانه الشعري لكل ما يقع في مرمى حواسه وللتفاعل بين وجدان الشاعر وعناصر الحياة. {مساكن بيضاء لريشة كحلية» (2016)، يتوغل فيه في سبر أغوار الدهشة في الصورة الشعرية.
ديوانك الجديد «وحيداً يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر»، إلامَ يرمز العنوان؟

عنوان العمل الأدبي، رواية كان أم شعراً، يمثل بوابة الدخول المغناطيسية إلى حقول الكلام في هذا الكوكب السري من السرد والإنشاد والهمس والبوح والاعتراف والاستشراف، حيث نكون رواة بلغة الحكاية وشعراء بلغة الإشارة والإيحاء والإلماح.

من هنا عنوان ديواني الجديد «وحيداً يشدو القصب مواويل البنفسج والمطر» المبني على رمزية عناصره المعجمية، يشي ويشير ويؤشر إلى سمتي الأحادية والفرادة في كنارية الشاعر الذي يأبى أن يصمت بين شفتيه وأصابعه ناي قصب النشيد الكوني الذي به يشدو بإيقاعات الداخل الشعوري والوجداني، وأوجاع وعذابات وأحلام ماء الحياة في جسد الكينونة بعنصريه البشري والترابي، وما بينهما من عناصر ملحقة تشكل جدلية الحركة والسكون على خشبة الوجود.

تحفل القصائد بغرابة ودهشة تلامسان حد الرؤيا، هل تعتبر أن الشعر يجب أن يأخذ القارئ إلى الماورائيات؟

قديماً في التفسير الميثولوجي لموقعي الشعر والشاعر من هيكل مجتمعات الطوطم والعشيرة والقبيلة والامبراطوريات والإمارات والممالك، خصوصاً في حقبة الحضارة اليونانية، اعتبر الشعر إشارات وإيحاءات ووحياً من عل، ونُظر إلى الشاعر بصفته سليل احشاء الآلهة، ومن هنا ليس الشعر فعل نسخ لواقع إنساني بيئي بعدسات البصر والبصيرة واللغة، بل هو رؤيا استشرافية تلامس عتبات الحلم الحدسي الافتراضي والاستلهام بقوة التوقع، بحيث يتحول الفعل الشعري إلى سيناريو رؤياوي مشهدي مركب وممنتج: قوامه المخيلة المولدة المبتدعة (بكسر اللام والعين)، فالصورة المولدة المبتدعة (بفتح اللام والعين)، فالمفردات والعبارات بما هي أطياف وظلال للصور الشعرية بجسد اللغة. وبالتالي واستناداً إلى هذه المقولة يغادر الشعر أطروحة أنه عدسة كاميرا مباشرة وغير خفية، وأنه ملعون حتى الرجم متى انحاز عن وظيفة البوق نيابة عن صوت حاكم أو حزب أو جماعة أو عقيدة.

رموز ومشهدية

في القصائد حضور لعناصر الماء والتراب والنار والهواء، أي المحسوس، فكيف تقيم توازناً في شعرك بين المحسوس والماورائيات؟

الماء والنار والتراب والهواء: هي عناصر المد الهيراقليطي (نسبة إلى الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس)، أي عناصر الأضداد المكونة لدورة الحياة، التي، تشكل في ما بينها عناصر المادة المحسوسة للطبيعة، والتي، بكيميائها تولد وتتنامى وتتبدل وتتحول الأشكال والصور المدركة منا بالحواس التي توظفها مخيلة الشاعر رموزاً تصويرية في سياقات مشهدية مختلفة جذرياً وكلياً عما كانت عليه على شاشة الواقع المادي المدرك. من هنا تطغى جمالية المختلف الإبداعية وتتجاوز في المطلق الصورة الجامدة لجمال كانت عليه تلك الصورة في صيغة المؤتلف المألوف حتى الاستهلاك والرتابة الميكانيكية الممجوجة. وبذا يحاذي المختلف الإبداعي شعرياً حدود الماوراء الغرائبي المدهش.

كيف تحدد الجمالية الشعرية هل هي في اللغة أم في الصورة الشعرية؟

الجمالية أو «الاستيتيقا» esthetics/ esthetique في الفنون عموماً، ومن ضمنها الشعر، هي صنعة بالبديع والبيان وفقاً للسان العرب، وهي تشكيل تقني بالتشابيه وبالاستعارات وفقاً للسان اللاتيني الحديث. أي أن الجمالية الشعرية لا تقوم بذاتها ولذاتها من دون عناصر اللغة بحقولها المعجمية وسياقاتها الصيغوية والإيقاعية والإسنادات، بحيث تبنى، بأدوات اللغة مفردات وأقنعة رموز في المفردات، قرى ومدن وقارات وكواكب الصورة الشعرية. فثمة تلازم وضعي موضوعي تفاعلي في غرض الجمالية بين اللغة والصورة الشعرية.

هل يعتبر ديوانك الجديد امتداداً لدواوينك السابقة؟

ثمة مشتركات تشبه ما نسميه الامتداد بين الأعمال الشعرية التي تتمخض عنها أحشاء محبرتي. ومن هذه المشتركات: أساليب الكلام وخصوصيتها التي تتصل بهوية الشاعر أو الروائي في جمالية لغته قاموساً وبناءً نصياً.

لكن ما لا شك فيه أن ثمة منعطفات تتباين وتتمايز لجهة التجربة الشعورية والمعاناة الوجدانية بين هذا الديوان أو ذاك، وإن تلمسنا أطيافاً لبعض مقاربات شعرية متكررة لناحية «التيمات» الوضعية المستوحاة من يوميات الطبيعة التي هي في مرمى بصري وبصيرتي ووجداني، مع اختلاف جذري في الأطر اللغوية والجمالية المستخدمة في المقاربة.

الذات والوجود

كيف تحدد الكتابة؟

الكتابة في المصطلح اللغوي العام تعني القيام بالأفعال الذهنية التالية: فعل التأمل، وفعل التفكر، وفعل المقاربة «التيماتية» المتعددة الأغراض بأساليب وأنماط الكلام المتنوعة في مراميها وتقنياتها.

أما الكتابة بلغة الإشارة والإيماء والإيحاء والاستشراف الرؤياوي والإيجاز والتكثيف، أي بلغة الشعر بنية وصوغاً وأسلبة، فهي ليست في صورة شهوة مزمنة لإشباع نرجسية كامنة في بئر «أناي» أو «أنويتي» (نسبة إلى الأنا)، ولا في صورة نزوة تجريبية موسمية عابرة، ولا في صورة نوافذ على متنفس نفساني كشرفات الكلام. بل هي، أي الكتابة، فعل استكشاف واستشراف رؤياوي بالعقل والخيال والحدس واللغة المبتدعة (بفتح الدال والعين) لما وراء المنظور في مشهد يوميات الواقع بمكوناته الإنسانية والطبيعية.

في شعرك تعتمد الرمز لاستبطان بواطن الذات والوجود، هل تعتبر أن الشعر يجب أن يحمل ملامح فلسفية إلى جانب الحلم والمشاعر؟

ما لا يمكن محوه أو حذفه أو حتى تهميشه من متلازمات تكوين القيمة الأساسية في المشروع الشعري، هو البعد الفكري أو الموقف الفلسفي للشاعر في لحظة استبطانه لبواطن الذات الإنسانية في اعتمالاتها وتفاعلاتها العلائقية مع الآخر، كما مع الظواهر والقضايا الوجودية من نقطة البدء في أفق الشروق إلى نقطة الأبد في أفق الغروب. من دون أن نبتغي من ذلك تجريد وعقلنة الكتابة الشعرية.

كيف تقيّم حضورك في شعرك؟

في الكتابة على مختلف مناحيها وفنونها الأدبية، والشعر ضمناً، لا نستطيع أن نغفل عن حضور ذات الشاعر أو الأديب في أعماله أو في منتجه الأدبي. والمقصود بالذات هنا: الخلفية الثقافية والفكرية والانثروبولوجية التي تكونت وترسخت كمخزون معرفي وإدراكي في ذاكرة وكينونة الأديب أو الشاعر. وفي إطار هذا المنظور أجدني حاضراً بوضوح في شعري الذي هو مراياي على خشبة الأبجدية العربية بكامل جمالية اللغة منها وفيها.

موهبة وطاقة

هل تعتبر الشعر وليد تجربة أم تراكماً ثقافياً أم رؤية فلسفية؟

الكتابة الشعرية أو التشاعر أو شعرنة النفس، هي قبل الانتماء إلى دعوتها السامية الجميلة، وقبل الانخراط في سلك مشقات ومتاعب الدربة عليها والتمرس بأسرار صنعة الجمال فيها، هي: ملكة (موهبة) فطرية تتحول إلى طاقة إبداعية مولدة بعد أن تخرج من وضعية الكمون إلى حالة قوة التوليد الأدبي، حيث تمسي نزوعاً مقيماً بحجم دافع مدرك وواع لا يستكين إلا متى استجابت روحه ومن بعدها ريشته لميوله وأحلامه الجمالية، وهذا ما لا يتحقق إلا بتراكم ثقافي أدبي مشفوع برؤية فلسفية كما ورد في السؤال .

إلى أي مدى تعكس في شعرك مسار المجتمع ومسيرة الإنسان؟

من مسلمات الوظائف الغائية الهادفة للفنون الأدبية عموماً والشعر منها على وجه الخصوص، وظيفة تجسيد القلق والمعاناة الوجوديين عند الإنسان على كوكب عصره وفي بيئة ومحيط هويته المجتمعية والوطنية والقومية، لكن من دون أن تغلب التقريرية الشعائرية المباشرة على حساب المكوّن الجمالي الفني وهو العنصر الأساسي في البناء الشعري. وهذا ما أرنو وأرمي إليه في مشروعي الشعري .

تماهٍ وخصوصية

ترقى علاقة الشاعر جورج غنيمة بالشعر إلى صورتين مختلفتين يحددهما كالتالي: «الأولى صورة المتلقي المتماهي المحاكي وهي مرحلة البدايات من أواخر ستينيات القرن الماضي حتى أواخر السبعينيات منه.

الثانية صورة الشاعر الباحث عن صوته بخصوصية لغته ورؤيته ورؤياه، وقد امتدت من مطالع الثمانينيات حتى مطالع التسعينيات عندما وجدت صوتي وتيقنت من خصوصية لغتي ورؤى مخيلتي وريشتي ومحبرتي» .

حول جديده الشعري يقول: {ريشتي لا تستريح لا تغفو ولا تستكين فهي مقيمة من دون هوادة في نهر محابري. وأنا الآن في صدد إصدار ديوان شعري استلهم فيه حضورات المكان والزمان كتجليات تاريخية حضارية في العدسات البعدوية الماورائية للقصيدة».

ثمة منعطفات في دواويني تتباين وتتمايز لجهة التجربة الشعورية والمعاناة الوجدانية
back to top