الوفاء مع وقف التنفيذ!

نشر في 24-01-2019
آخر تحديث 24-01-2019 | 00:05
 مسفر الدوسري الوفاء في الحب ليس ألا يرحل الحبيب، لكن هو أن يعود بعد الرحيل، وليس ألا يغيب المحبوب، لكن هو أن يشرق بعد المغيب، فالطيور تغادر أعشاشها كل صباح وتهيم في فضاءاتها بين اللونين الأزرق والرمادي ما شاء لأجنحتها أن تهيم، إلا أنها تعود في آخر المطاف إلى أعشاشها لا تبتغي غيرها سكناً، وتلملم الشمس أشعتها الذهبية كل مساء، وتضعها في حقيبة ظهرها، لا تترك من أساورها وخواتمها أو من حُليها شيئا خلفها، لكنها لا تمنحنا الإيحاء بأنها ذاهبة إلى غير عودة، فهي تعود في صباح اليوم التالي، لتخرج كل ما لملمته من حليها من ذات الحقيبة، لتضعها على تسريحة الفضاء والطرقات والنوافذ، وتعيد ترتيب تلك الحلي الذهبية وكأنها باقية بيننا إلى الأبد، وفي المساء تفعل الشيء ذاته في حفلة وداعية نقيمها لها، مع علمنا علم اليقين بأنها في صباح اليوم ستطرق باب "الغبشة"، وتضع حقيبتها التي انقضت ظهرها وتفرغ محتوياتها من جديد. ولا أذكر أننا نعتنا الشمس في يوم من الأيام بقلة الوفاء لرحيلها، ولا الطيور لتركها أعشاشها، وقد يكون سبب طمأنينتنا بأن الطيور ستعود إلى أعشاشها، والشمس ستعود في الصباح الباكر، والقمر سيرجع مساء كل ليلة، إلا أن لها مواعيد تكاد تكون معلومة وشبه قطعية، فنكون على يقين بوفائها بخلاف البشر، الذين يرحلون بغير رضانا وبغير رغبة منا وبغير إيمان بحتمية عودتهم، وقد لا يعودون بالفعل، فيمتد ظننا بعدم وفائهم إلى أجل غير مسمى، ونظل نرسم على جدار الزمن خطوطا بعدد أيام رحيلهم حتى تذبل وتشيب ملامح تلك الخطوط وتغزوها التجاعيد قبل أن يعود الغيّاب، ونتأكد من أنهم لن يفعلوا، بعد أن يئس الأمل وتقطعت حبال الصبر بين أيدينا، فيصبح عدم وفائهم يقيناً لا ريب فيه.

إن عدم علمنا بميعاد من يرحل إذا رحل ليس سببا كافياً لأن نصفه بعدم الوفاء، ولا يفترض أن نستبق الأيام بإطلاق التهم الموبوءة، وختم وفائه بالشكوك، ونواياه بالشوك، فنحن لا نعلم أيضا متى تعود السحب بعد انقشاعها، إلا أنها تفاجئنا بعودتها، لتتبوأ عرشها في السماء، ولا ندري متى يعود الأمل عندما يغادر مكانه في قلوبنا ويحتل اليأس مكانه حتى لنكون جازمين بأنه سيبقى، فيفاجئنا الأمل ببزوغ نوره فجأة من جديد من حيث لا نعلم، ويودعنا الحزن يوماً ما، فنظن أنه أخذ كفايته من آلامنا ودموعنا، فلم يعد يغريه من أوجاعنا شيء، لكنه يعود على غفلة من أفراحنا وسعة صدورنا.

إن جهلنا بمواقيت عودة الراحلين لا يعني عدم عودتهم وقلة وفائهم، فربَّ راحل أققلنا باب رجائه في الرجوع بأقفال أضعنا مفاتيحها في قاع البحر فإذا به يحرك مقبض باب القلب معلناً وفاءه بالرجوع! الراحلون هم أوفياء مع وقف التنفيذ!

back to top