الوصيّة الغامضة

نشر في 11-01-2019
آخر تحديث 11-01-2019 | 00:02
No Image Caption
الزائر الغريب

نزوى، سلطنة عمان الجمعة، الثامنة صباحاً

استلقى خالد كعادته على أرضية المكتبة وبين يديه كتاب يقلب صفحاته بشغف، على الرغم من أنه قرر التنفيذ، للمرة العاشرة خلال هذا الشهر وبدأ بتنظيف مكتبته التي ورثها عن جده، وإضفاء بعض الترتيب على رفوفها. إلا أنه وللمرة العاشرة يفشل تماماً، فكلما بدأ بالترتيب يقع بين يديه كتاب يشده عنوانه، فيحتضنه ويهم بقراءته، ويتناسى الهدف الأصلي لوجوده في المكتبة.

في الغرفة المجاورة له كان أخوه سالم يسبر أغوار الشبكة العنكبوتية في قوقعته الإلكترونية، أما أختهما عائشة فكانت في غرفتها تستمتع برسم بعض اللوحات الفنية بألوانها الزاهية.

رن جرس المنزل، وكديدنهما يستحيل أن يخرج سالم وخالد من قوقعتيهما كأنهما ملتصقان بغراء قوي، ولأن عائشة اعتادت ذلك منهما، أصبح فتح الباب على عاتقها، لأن والديها سيقضيان يومين في العاصمة، فاتجهت نحو الباب تستعلم عن الطارق، ثم عادت مسرعة إلى خالد تخبره أن من عند الباب يسأل عنه.

لاحت علامات الاستغراب على وجه خالد وهو يتجه نحو الباب، فمن يمكن أن يزوره في الصباح الباكر في يوم عطلتهم! وما إن فتحه حتى أنعشه نسيم الصباح البارد، فألقى التحية على الطارق الذي يبدو أنه في بداية العشرينات من عمره، ذو بشرة حنطية ووجه مستطيل وعينين ناعستين. بادر الغريب بالتعريف عن نفسه قائلاً: أنا اسمي حسن، ولم يسبق أن تقابلنا، ولكني سمعت عن إنجازكم في حل سر القلادة.

قاطعه خالد، واحمر وجهه خجلاً وهو يقول: إذا جئت لتحصل على مقابلة نحكي خلالها عن مغامرتنا فنحن نعتذر منك، لقد تحدثنا إلى الصحافة بما يكفي.

بدا على محيا حسن الحرج، ثم تلعثم وقال: في الحقيقة لقد جئت إليكم طالباً المساعدة.

راح خالد يحدق إلى وجه ضيفه، وقال متعجباً: المساعدة!!

ثم اعتذر منه لأنه تركه واقفا على الباب، فسارع بدعوته إلى الدخول.

دخل سالم وخالد مع الضيف حسن إلى المجلس، وبعد أن استقروا في مقاعدهم، بدأ حسن بسرد سبب مجيئه قائلاً: لقد كنت مسافراً إلى خارج السلطنة للدراسة في الخارج، وعدت قبل شهرين لأتفاجأ بأبـي على فراش المرض، وقد توفي بعد وصولي بفترة قصيرة. صدمت كثيراً لوفاته، ولكن الذي ساعدني لألملم شتات نفسي هو الوصية التي تركها لي قبل وفاته، وأخبرني أن الوصية ستدلني إلى أمانة قد تركها لي وسيسعده كثيراً أن أعثر عليها.

ثم أخذ نفساً وتنهد بحرقة ثم قال: وللأسف لم أستطع إيجادها، وموعد عودتي إلى الغربة بعد ثلاثة أيام، وكلي أمل أن أجد الأمانة قبل سفري، ولقد قررت أن ألجأ إليكم لمساعدتي، فسمعتكم قد سبقتكم.

كان سالم متلهفاً للعودة إلى قوقعته الإلكترونية فقال محاولاً إنهاء اللقاء: لا أدري إن كان يمكن أن نساعدك فجدولنا مزدحم بالمذاكرة.

نكز خالد سالماً وقال وهو يبتسم للضيف: ولكن لا يوجد مانع أن نلقي نظرة على الوصية.

أصدر حسن نحنحة خفيفة وقال: أشكركما، أتمنى ألا أكون قد أخرتكما عن أمور مهمة.

حضرت عائشة وناولت الجميع أقداح الشاي اللذيذ، وانضمت إليهم لتستمع إلى باقي الحديث، ارتشف خالد رشفة من كأسه ثم قال: لقد قلت لنا إنك لم تستطع تنفيذ الوصية، هلا أخبرتنا عن السبب.

قال حسن: بصراحة أنا لم أفهم الوصية، لا أدري كيف أشرح لكم ولكن...

فسارع لوضع كوب الشاي من يده ثم أدخلها في جيبه وأخرج الوصية وناولها خالداً من فوره.

ما إن فتحها خالد حتى أصابه الذهول، وراح يحدق إلى وجه حسن متسائلاً إن كان يمزح معه أم يتحدث بجدية.

فالورقة كانت ناصعة البياض، كأن حروف كلماتها هربت جماعات وفرادى من على سطحها.

زائر غريب.

ووصية بدون كلمات.

يبدو أن يوم الأخوة المغامرين سيكون طويلاً... طويلاً جداً.

وصية بدون كلمات!

حدقت أعين الأخوة إلى الورقة البيضاء، ثم تبادلوا النظرات الحائرة بصمت، وكل منهم يتساءل في قرارة نفسه، من يترك وصيته بيضاء دون أن يكتبها، أم أنها مزحة سمجة من زائر غريب.

لاحظ حسن النظرات المشككة في نواياه ثم قال: صدقوني لقد صدمت مثلكم.

أطرق خالد مفكراً وفي قرارة نفسه يقول: يبدو أن أمامنا وصية غامضة.

استجمع سالم أفكاره وقال: ربما هذه ليست الوصية الأصلية، هل أنت متأكد يا حسن؟

أجاب حسن بثقة: نعم أنا متأكد ولقد كانت في مغلف مختوم بالشمع الأحمر، مما زاد من دهشتي، لماذا هي فارغة.

أخذ سالم الوصية من يد خالد وبدأ يتأملها ثم قال: قد يكون القلم الذي تمت الكتابة به مصنوعاً من الحبر الطّيار، والذي يختفي بعد عدة ساعات من الكتابة به، فربما أخطأ والدك رحمه الله في اختيار القلم.

استنكر خالد ذلك وقال: لا أظن ذلك يا سالم، ماذا لو كان العكس، ماذا لو كان قد كتب الوصية بحبر سري. فحسب ما قرأت في أحد الكتب أنه يمكن عمل حبر سري بكل سهولة.

فغر حسن فاه وقال: حبر سري، نحن هنا لا نتحدث عن رواية بوليسية، بل عن وصية عادية.

ابتهجت عائشة وصفقت بيديها وقالت: يبدو أن خلف هذه الوصية مغامرة جديدة ومثيرة.

ثم توقفت فجأة عن التصفيق والتفتت نحو خالد قائلة: ولكن ما هو الحبر السري؟

أجابها خالد بثقة: هو مادة يُكتب بها وليس لها لون أو رائحة، فلا يمكن رؤية ما تم كتابته بها.

قال حسن متفاجئاً: هل تستطيع يا خالد أن تقرأ الحبر السري؟

قال خالد: نعم كلنا نستطيع، فإن لم أكن مخطئاً بمجرد أن تتعرض الورقة للحرارة أو أن نمسحها بقطرات من الحمض ستظهر الكتابة المخفية.

وأضاف خالد: فلنقم بتجربة تعريض الورقة للحرارة، هيا أسرعي لإحضار شمعة يا عائشة.

انطلقت عائشة نحو المطبخ لإحضار الشمعة، ولكنها عادت إليهم تحمل المكواة.

ابتسمت وقالت: لم أجد شمعاً في المطبخ، ففكرت أن نستخدم حرارة المكواة.

بعد أن سخنت المكواة على درجة حرارة مناسبة قام خالد بتمرير المكواة على قطعة من القماش تم وضعها على سطح الورقة.

تسمرت أعين الجميع في الورقة بانتظار أن تظهر الحروف من مخبئها السري، ولكن كانت المفاجأة، لا كتابة على الورقة.

قال حسن: إذاً يتبقى أمامنا تجربة الحامض، ولم يكد ينهي عبارته حتى كانت عائشة في المطبخ تفتح الثلاجة بحثاً عن الليمون، وعادت مسرعة ممسكة بواحدة منها في يمناها بقوة، كأنها تحمل مفتاح خزنة الكنز بيدها.

وباستخدام قطعة صغيرة من المنديل، قام خالد بتمرير عصارة الليمون على جزء من الورقة، ليتبين إن كان الحامض سيظهر الكلمات أم لا، ومرة أخرى تسمرت الأعين في انتظار ظهور الحروف العنيدة، لكنها كانت أشد عناداً هذه المرة أيضاً، ولم تظهر.

انطلقت صيحات الإحباط من وجوه الجميع، وتسلل اليأس إلى قلوبهم، فلا يبدو أن هناك رسالة سرية مخبأة في الوصية.

أطرق حسن رأسه وقال: أعتذر على تضييع وقتكم، يبدو أنه لا توجد وصية حقاً، ربما أخطأ أبـي عندما وضع الورقة في المغلف المختوم.

وهمّ واقفاً للاستئذان، لكنه تسمر مكانه عندما طربت أذناه لسماعه قول سالم: انتظر يا حسن، يبدو أن هناك خيارات أخرى لم نجربها بعد.

وبنظرة كلها تساؤلات، قال حسن: ماذا، هل عرفت الحل؟

قال سالم وهو ممسك بهاتفه وقد بدا له أمر الوصية مشوقاً: لا أقول إني عرفته، ولكن ما أقصده أنه لا تزال هناك طريقة لم نجربها. يبدو أن كتب التاريخ لم تخبر خالداً بعد بالتطور العلمي للأحبار السرية، فهناك أحبار أخرى يمكن أن تكتشف بواسطة الأشعة فوق البنفسجية.

عبس خالد ووضع يده على رأسه باستياء، وتمنى في قرارة نفسه لو أنه يطلع أكثر على العلوم الحديثة، التي تتطور كل يوم تطوراً يفوق تصوره.

أردف سالم مكملاً الشرح: في الوقت الحاضر يمكن لأي منا أن يطلب أقلاماً فيها حبر سري يظهر عن طريق الأشعة البنفسجية، كما يمكن طباعة الرسومات الملونة أو الكتابات المختلفة باستخدام الطابعات الحديثة التي تدعم الأحبار السرية، ثم يتم إظهار الكتابة أو حتى الرسومات الملونة عن طريق الأشعة فوق البنفسجة.

ذهل خالد وقال: ولكن السؤال الآن من أين لنا بأشعة فوق بنفسجية؟

فكر الجميع كيف يمكنهم الحصول على الأشعة فوق البنفسجية، وفجأة هبت عائشة واقفة من مكانها وقالت باستياء بالغ: هل تذكران الصيف الماضي، عندما اخترع العبقري سالم الروبوت الذي كان يحمل كاشفاً للأشعة، ويتبجح أمامنا بأنه يستطيع رؤية غير المرئي من الأوساخ، وانتهى المطاف بأن قمنا بتنظيف المنزل لمدة أسبوع كامل، ثم اكتشفنا بعد ذلك أن ما يراه كان بعض آثار المنظفات!!!

أحس سالم بالعرق البارد يتصبب منه، وفكر في نفسه: لماذا هذا الإحراج أمام الضيف.

كتم خالد ضحكته وقال: لا نزال نذكر ذلك كأنه حدث البارحة.

استطردت عائشة قائلة: ألم يكن ذلك كاشفاً للأشعة فوق البنفسجية؟!

أومأ سالم برأسه إيجاباً.

قالت عائشة: ماذا تنتظر إذاً! أحضر الكاشف بسرعة.

قطب سالم حاجبيه وقال بتذمر: الله أعلم أين أجده، لم أستخدمه منذ الصيف الماضي.

أخذته عائشة من يده وقادته نحو القوقعة الإلكترونية وهي تقول: أكاد أجزم أن الكشاف لم يغادر قوقعتك!

شرع الأخوة في البحث عن الكشاف، حتى وجدوه أسفل صندوق فيه أسلاك غريبة الشكل.

قام سالم بتجربته فإذا به لا يعمل!

توترت أعصاب خالد وعائشة، وهما يرقبان سالماً وهو يقوم بتغيير البطاريات، ولحسن الحظ قرر الكشاف العمل مرة أخرى، فعادوا أدراجهم حيث كان يجلس حسن متململاً.

قال سالم موجهاً حديثه إلى أخويه: الآن فلنطفئ جميع الأضواء، ونسدل الستائر لنرى إن كانت هذه الحروف ستستمر على عنادها أم ستطاوعنا أخيراً، فسارع خالد وعائشة لفعل ما قاله سالم.

تسمّرت أعين الجميع وهم يرقبون سالماً وهو يسلط الكشاف نحو الورقة، وبدأت الكتابة تومض كأن حروفها تخلت عن عنادها وعادت من هجرتها مسرعة، فتهللت أساريرهم فرحاً وحماسة، وقام حسن بالتقاط صورة الوصية عن طريق كاميرا الهاتف. وما لبثت الحروف أن تلاشت وهاجرت مرة أخرى عندما أطفئ الكشاف، وعادت الأنوار.

وقرأ خالد الوصية من هاتف حسن بصوت مسموع:

إن للبيت العتيق توأماً وحيداً، يتوق لزائر فريد فالزوايا تماثلت ولم تمانع أن يكون لها نظير.

وأما الأضلاع فتناسبت ورضيت بحكم المقادير.

***

فإذا تيقنت بأن للبيت العتيق توأماً وحيداً

فابحث عن وصيتي حيث تسكن الأرواح

واعلم أن طريقك كنز لا تراه كل العيون

من يبصره يسلك طريق الفاتحين.

توأم، وأرواح!!

ما هذا اللغز الذي علقنا فيه!

back to top