بدايات المغامرة السودانية

نشر في 10-01-2019
آخر تحديث 10-01-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر كان الداعية السوداني والمفكر الإسلامي د. حسن الترابي، شريك الجنرال النميري ورفيق المشير عمر البشير الذي يترنح حكمه اليوم، أحد أكبر دواهي السودان وأبرز مغامري الزمان، وكان د. الترابي في طموحاته الحزبية يحلم دائما بالانفلات من قيود الأحزاب السياسية المعيقة لتطلعاته الاكتساحية، واعتماد رحاب الجبهات الشعبية وصخب الاحتشاد الجماهيري والعمل الجماعي الذي لا حدود لغوغائيته، والذي يستقطب كل الناس والشعارات، لا مجرد الإسلاميين والحزبيين، وكم يبدو ربما غريباً ومحزناً له اليوم، من خلف غيوم الأبدية، وقد غاب عن دنيانا منذ سنوات قريبة- 2016، أن الجماهير نفسها التي حلم باستقطابها منذ أن عاد إلى السودان من الخارج، محملاً بأعلى الشهادات من لندن وباريس، لبناء نظامه الإسلامي عام 1989 مثلاً، مع الضباط عمر البشير ورفاقه وبقية الإسلاميين من مغامرين حالمين ومجربي حظوظ، ممن خاضوا المحاولة الانقلابية في يونيو 1989، هي نفسها اليوم كذلك الجماهير التي تعبر ليل نهار عن سخطها، وتتوعد الخليفة "البشير" بالويل والثبور، وتطالبه بالاعتزال والرحيل وترك السلطة بعد نحو 30 عاماً من تذوق طعم حكومة 1989 "الإسلامية"!

كان مشروع الأسلمة بقيادة النميري، كما ذكرنا، قد وصل عام 1985 إلى نهاية الطريق، وفي "نهاية الطريق" هذه عانى السودان المجاعة والجفاف والحرب الجنوبية والانتشار الفادح للفساد في دوائر الحكم في الشمال. لم يجد أحد جنة دنيوية كالتي وعد النظام جماهير السودان بها.

استفاد د. الترابي في رهانه الجديد، من مغادرته الرائعة التوقيت من سفينة جعفر النميري، وفي الخرطوم، يقول الباحث د. بشير موسى نافع، في كتابه "الإسلاميون" المشار إليه في مقال سابق، "سيطرت عناصر إخوانية على مواقع اقتصادية مهمة، لا سيما قطاع البنوك الإسلامية التي سمح النميري بإنشائها، كما أصبحوا قوة ملموسة في أوساط الطبقات المتعلمة، وأصبح التنظيم الإخواني ساحة رئيسة لنشاط المرأة السودانية نتيجة لإصرار الترابي المثابر على إفساح المجال للمرأة في الحياة العامة، وفي العام التالي لإطاحة نظام النميري، خطا الترابي خطوة جديدة بتأسيس الجبهة الإسلامية القومية، وخلال فترة قصيرة نجح في توسيع نطاق الجهبة لتشمل قوى صوفية، وإسلاميين مستقلين وزعماء قبليين". (ص192-193).

أراد د. الترابي من تشكيل الجبهة الإسلامية القومية التخلص من التنظيم الإسلامي المغلق ومع انهيار حكومة الصادق المهدي الائتلافية في 1988، وتدهور الموقف العسكري، ساد البلاد إحساس قوي بأن السياسيين أخفقوا من جديد، وأن الانقلاب العسكري بات على الأبواب.

عندما نجح الضباط الإسلاميون في السيطرة على الحكم في نهاية يونيو 1989، يقول د. نافع، " لم يكن معروفاً لا داخل السودان ولا خارجه، أن لهم علاقة ما بالجبهة الإسلامية القومية ود. الترابي. وكان مما أبعد تهمة الانقلاب عن "الجبهة الإسلامية القومية" أن الضباط الانقلابيين سارعوا إلى اعتقال د. الترابي ضمن من اعتقلوا من الزعماء السياسيين". من باب التمويه طبعاً وإبعاد الشبهة.

يقول د. نافع: "ليس هناك من شك في أن الانقلاب كان انقلاب الجبهة، وأن اعتقال الترابي كان متفقاً عليه لإبعاد الصبغة الإسلامية عن الانقلاب إلى حين يستطيع الحكام الجدد تعزيز سيطرتهم على البلاد"، ويضيف: "عملية الخداع السياسية الكبرى تلك انطلت على واشنطن وعلى العواصم العربية الرئيسة، وعندما انكشف الخداع في النهاية، كانت جسور الثقة المعتادة بين الانقلابيين الإسلاميين وأغلب الأنظمة العربية قد انهارت".

أزال د. الترابي ربما بمهارة فائقة آثار بصماته، ويقول الباحث: "ليس من السهل القطع بموقف الترابي من مشروع الانقلاب، وثمة من يقول إن الترابي لم يكن محبذا لفكرة الانقلاب العسكري أصلا، وحتى بعد نجاح الانقلاب، كان يلح على التخلص السريع من الطابع العسكري للنظام، ولكن هناك من يقول إن انقلاباً ينفذه ضباط مرتبطون بالجبهة الإسلامية القومية ما كان له أن يتم بدون تخطيط ومباركة من الترابي". (ص 194)

من مفارقات حياة السودان السياسية وربما مآسيها، أن الانقلابيين الإسلاميين أطلقوا على حكمهم تسمية "ثورة الإنقاذ" قاصدين بذلك أنهم بصدد انتشال السودان من الفوضى والفساد وخطر الحرب الأهلية الدائرة في الجنوب... إلا أن "الثورة الإسلامية" هذه كانت كارثية بالنسبة إلى الإسلاميين أنفسهم وللسودان كدولة مستقلة أو كشعب موحد.

حلّ الانقلابيون البرلمان والأحزاب، وأعطيت السلطات التشريعية للمجلس العسكري، وأعلن قادة الحكم أنهم بصدد إقامة نظام سياسي على أساس من المؤتمرات الشعبية لا التعددية الحزبية، استعيرت الفكرة من "درر" أفكار العقيد الليبي معمر القذافي، ولم يكن سراً أن الفكرة هي فكرة الترابي. ثم جابه السودان المتأزم فوق وضعه مشكلة عربية كارثية. فلا القوى الداخلية في السودان استسلمت للإسلاميين، ولا حكومة الإنقاذ نجحت في حسم الحرب في الجنوب، ثم انفجرت أزمة العدوان على الكويت عام 1990.

رفض السودان الانضمام إلى التكتل العربي المتحالف مع الولايات المتحدة ضد العراق، "وقد وضعه هذا الموقف في عداء مع واشنطن وأغلب الدول العربية المؤثرة، بما في ذلك مصر والسعودية".

دعا الترابي إلى لقاء عربي إسلامي موسع في مايو 1991، وشهدت الخرطوم اجتماع عدد واسع من القوى والشخصيات العربية والإسلامية المعارضة للسياسة الأميركية، وتولدت عن اللقاء منظمة دائمة سميت باسم "المؤتمر الشعبي العربي- الإسلامي" الذي اتخذ من الخرطوم مقراً، وانتخب الترابي أميناً عاماً له.

حاول الإنقاذيون فك العزلة عن أنفسهم بعدد من الطرق عبر التصالح مع بعض قيادات الحرب الجنوبية، وطرد أسامة بن لادن، بل عرض الانقلابيون تسليمه، وفي الخفاء كانت أجهزة الأمن تتضخم وتتضخم لحماية الانقلاب الإسلامي... ثم "وقعت الحادثة التي قصمت ظهر البعير"، كما يصفها د. نافع!

ففي يونيو 1995 تعرض الرئيس المصري حسني مبارك لمحاولة اغتيال بهجوم مسلح في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، قام بها مصريون من عناصر الجماعة الإسلامية الهاربة خارج البلاد، ولكن من ساعدهم وقدم لهم العون كان جهاز أمن سوداني.

أعلن د. الترابي تبرؤه من العملية ومن خطط لها، كما أنكرت حكومة الإنقاذ أي دور لها في محاولة الاغتيال، غير أن الإنكار لم يمنع صدور إدانة دولية للسودان من مجلس الأمن.

في صيف عام 2000 أعلن الترابي والموالون له تأسيس "حزب المؤتمر الشعبي"، وبذلك انقسم رفاق العمل الإسلامي الأقارب وأصدقاء العمر على أنفسهم حول إدارة الحزب وقضايا أخرى، ثم "فاجأ الترابي الجميع بواحدة من أكثر الخطوات التي خطاها في حياته براغماتية". تم الإعلان عن تفاهم بين د. الترابي وبين زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان "جون قرنق" وكان الترابي وقرنق "قطبي الرحى في الصراع الدموي على السودان طوال عقد التسعينيات".

كانت الأمور تشير إلى تطورات سياسية خطيرة ستتجاوز دولة المشير عمر البشير الانقلابية الإسلامية، في تفاهم وربما تحالف، وبعد ثلاثة أيام فقط بعد 19 فبراير 2001 من توقيع التفاهم في جنيف، أُلقي القبض على د. الترابي وكل أعضاء الهيئة القيادية لحزب المؤتمر الشعبي الموجودين في السودان آنذاك. ويقول الباحث معلقاً: "أصاب الذهول السودانيين وهم يرون إسلاميي حكم الإنقاذ يعتقلون شيخهم. وعلّقت شخصية عربية على الحدث بأن التاريخ حفل بالثورات التي تأكل أبناءها، أما في السودان فالثورة تأكل شيخها".

وُضع الترابي لعدة أشهر في ظروف اعتقال سيئة، وباعتقال الترابي وصل نظام الإنقاذ إلى نهاية طريق، فإما أن يتخلى عن السلطة لمصلحة حكومة تعددية أو الاستجابة للضغوط الدولية، وتصوير اعتقال د. الترابي بأنه عربون لتحسين العلاقات مع العالم العربي... وهذا ما اختارته حكومة البشير.

في يوليو 2002 وقع وفدا الحكومة السودانية الانقلابية، والحركة الشعبية التي تمثل جماعة قرنق اتفاقية سلام شامل في الجنوب تحت إشراف أميركي، وفي العام التالي أطلق سراح د. الترابي.

لم يرض أهالي "درافور" بالاتفاق، ومن عام 2003 بدأت مجموعتان دارفوريتان حرب عصابات ضد القوات الحكومية مطالبة بحقوق أهالي الولاية من غير العرب، وكانت قيادة إحدى المجموعتين في أغلبها من التيار الإسلامي والأنصار السابقين للترابي، ولم يخف الترابي تعاطفه مع مطالب أهالي درافور، وهكذا، في أبريل 2004، ولم يكد الداعية د. الترابي يهنأ بالإفراج عنه وبحريته، حتى وجهت له تهمة التآمر مع المتمردين في دارفور وأعيد اعتقاله.

وعندما وقع في العام التالي اتفاقية السلام الشامل بين حكومة الخرطوم وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان، تم الإفراج عن د. الترابي من جديد... إلخ.

كيف يقيم الباحث د. بشير نافع تجربة السودان الانقلابية عام 1989؟ يقول: "انقسم الإسلاميون على أنفسهم في أول تجربة لهم في الحكم، صادروا الحريات، وارتكبوا عدداً لا يحصى له من الأخطاء السياسية التي لم يكن لها دائماً من داع. وفي النهاية، عادوا إلى حيث ابتدؤوا، إلى التفاوض مع المعارضين والإقرار بالتعددية السياسية، وإن كان في تجربة السودان من درس، فهو الإخفاق المؤكد لمحاولة بناء حكم مستقر وشرعي عن طريق الانقلاب العسكري، ولكن الدرس الذي يشارك السودان في تجربتي الإسلاميين في إيران وأفغانستان أن الإسلاميين لم يصلوا بعد إلى حل إشكالية الدولة الحديثة وعلاقتها بالمجتمع. في الحالات الثلاث لم يكن الوصول الى السلطة هو المشكلة، بل كيف يكون التعامل مع أداة الدولة بعد القبض على مقاليدها".

(الإسلاميون، ص 200)

بإمكان دولة السودان، كالعديد من دول العالم العربي، أن تكون من أثرى الدول العربية وأبعدها عن الفقر والجوع بما لديها من أراض ومياه وإمكانات، غير أنها غارقة اليوم ومنذ فترة ليست بالقصيرة بالمظاهرات والمسيرات، فيما يواصل المشير عمر البشير الاستغاثة والتهديد، في حين تتخلى عنه الأحزاب والشخصيات.

إن الفصل الأخير في تجربة 1989 وقيادتها لم يكتب بعد، وما علينا سوى أن ننتظر الشعب السوداني بحسن الاختيار بعد خروجه من هذه المحنة.

back to top