الصين وسِريتها المؤذية

نشر في 07-01-2019
آخر تحديث 07-01-2019 | 00:00
للسرية مكانها في نظام الحكم، لكنها لا مكان لها في التمويل الدولي للقطاعات العامة، وينبغي وضع نهاية لهذا الأسلوب قبل أن يُحدث أضرارا أكبر من تلك التي سببها بالفعل.
 بروجيكت سنديكيت قد تكون الأسرار من بين أنفس ما تمتلكه الحكومات، ولعل بعض أشهر الأمثلة على ذلك: حصان طروادة، وشفرة إنيجما، ومشروع مانهاتن، والهجمات المباغتة كالهجوم على ميناء بيرل هاربور، وحرب الأيام الستة، وحرب أكتوبر. لكن يصعب في بعض الحالات التوفيق بين رغبة الحكومات في السرية والمصلحة الوطنية، بل قد تمثل تلك الأسرار أكثر التهديدات خطورة عليها، ويزداد حجم التهديد عندما تكون السرية مدفوعة بالمصالح الوضيعة لحكومة أجنبية مصرة على بلوغ مآربها.

من أمثلة ذلك: التمويل الصيني لمشروعات التنمية الدولية، فقد أضحت الصين لاعبا جديدا ومهما في هذا المجال، مبدئيا، قد يمثل ما تمتلكه الصين من مدخرات هائلة، ودراية بمشاريع البنية التحتية، واستعداد للإقراض، فرصة عظيمة للدول النامية، لكن للأسف نجد أن دولاً مثل باكستان وسريلانكا وجنوب إفريقيا والأكوادور وفنزويلا قد اعتادت التعلم بالطريقة الصعبة (التجربة والخطأ)، ومن ثم فإن تمويل الصين للمشروعات التنموية يعطى اقتصادات هذه الدول دفعة وطاقة وقتية لكنها مليئة بالمفاسد، حيث يتبعها عواقب مالية (وأحيانا سياسية) بغيضة.

عندما تصطدم الدول بالتكاليف المتزايدة للمشروعات وتحاول استيعاب ما حدث للخروج من الورطة، تجد أن الشروط المالية لالتزاماتها قد غُلفت تعاقديا بالسرية، فضلا عن ذلك، تفرض العقود قيودا على قدرة المقترضين، مثل المشروعات المملوكة للدولة، على كشف هذه الشروط للحكومة، ناهيك عن العامة.

وأقل ما يوصف به هذا الموقف دون مبالغة أنه مؤسف، لأن التحكم في تراكم الديون يعتبر من أهم الأشياء التي يمكن لأي حكومة فعلها لمنع الأزمات، كما أنه يعد من أصعبها وأشقها، وقد أحرزت دول كثيرة تقدما في مجال تعزيز السياسات المالية بتبني قوانين للتمويل العام وممارسات تتعلق بإعداد الميزانيات بهدف إبقاء العجز تحت السيطرة. وقد تعتقد أن هذا يكفي للتحكم في تراكم الديون، فعلى أي حال، تشير مبادئ المحاسبة الأساسية إلى أن دين الغد هو دين اليوم فقط مضافا إليه العجز الذي تحققه بين اليوم والغد، وبالتالي إذا استطعت التحكم في العجز، فستستطيع التحكم في نمو الدين.

ليت الأمر بهذه السهولة، فكما أوضح أوجو بانيتسا أستاذ الاقتصاد في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف ومشاركوه من الباحثين، يبدو أن الدول النامية تخالف مبادئ المتطابقات المحاسبية، لأنه لا يوجد عمليا ارتباط بين العجز وتطور الدين. والسبب في ذلك تحول مصروفات كثيرة إلى التزامات عامة دون المرور بعملية إعداد الميزانية مطلقا، فكيف يحدث ذلك؟

ثمة طريقة مهمة للتمييز بين الدين الحكومي وغير الحكومي تكمن في تحديد ما إذا كانت التزامات الديون ستُدفع من ضرائب مستقبلية أو من تدفق نقدي مستقبلي من جانب المشروع الذي يجري تمويله بالقرض، لكن هذا الحد الفاصل للتمييز غالبا ما يُطمس تماما بسبب الضمانات، سواء كانت صريحة أو ضمنية، التي تجبر الحكومة على إنقاذ المشروع بأثر رجعي وتسديد الدين للدائن كليا أو جزئيا.

ويعد الإقراض مقابل الصادرات المستقبلية من الممارسات التي اتبعتها كل من الصين وروسيا مؤخرا، وذلك كما في حالة النفط في كل من الإكوادور وفنزويلا، وقد أتت هذه الترتيبات بنكهتين: شنيعة وفوق التخيل.

تقوم النسخة الشنيعة على فكرة أن هذا الدين ليس دينا في الحقيقة، إنما مجرد شراء للنفط مقدما. وذلك ادعاء سخيف، لأن الدين هو أي التزام تأخذه على عاتقك اليوم لتلتزم بسداده من عائداتك المستقبلية، كما أنه ليس مجرد أي دين قديم، إنه دين مضمون بتدفق الصادرات مستقبلا، مما يجعله دينا فوق الممتاز، بل أكثر امتيازا من الدين المستدان من الكيانات التي تحتفظ بوضع ما يسمى بالدائنين المفضلين كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فعدم اعتباره دينا يعد شناعة واضحة.

لكن الأمر يتعدى إلى ما هو أسوأ من ذلك، حيث يستخدم الصينيون صادرات النفط كضمان لديون المشروعات التي لا علاقة لها بالنفط مثل سد كوكا كودو سنكلير في الإكوادور أو مشروع الصندوق الوطني للتنمية في فنزويلا، الذي لم يكشف عن أي معلومة بشأن ما حدث لقرض صيني بأكثر من 60 مليار دولار أميركي. في هذه الحالات، لا تُسدد قروض المشروعات من العائدات المستقبلية للمشروع، بل من عائدات النفط المستقبلية التي كانت الدولة تعتمد عليها لسداد جميع التزاماتها المالية أو غيرها. نتيجة لذلك صارت عائدات النفط تُستخدم للإنفاق على مشروعات لم تدعم إنتاج النفط ولم تمر من خلال عملية الميزانية، مما يسبب اضطرابا للاستقرار المالي لكل من شركة النفط والحكومة.

في هذا السياق، فإن ما تفعله الصين من إبقاء شروط التمويل سرا عن مجتمع مسؤول بالأساس، وعن حكومة هذا المجتمع غالبا، أمر غير مقبول ويتجاوز كل المعايير، بل إن شروط إعادة التفاوض هي الأخرى سرية، خشية أن يستخدم المقترضون النتائج كسابقة.

لا أستطيع أن أجد منطقا جيدا أو حجة مقبولة تبرر السرية في سياق الالتزامات المالية العامة المتعلقة بالمصلحة العامة، وهذا شيء ينبغي للحكومات ألا تتهاون معه، ويعكس الإخفاق في تسريب شروط هذه الالتزامات الضخمة للعامة مدى ضعف المجتمع المدني والصحافة في تلك الدول.

لكن هناك جهات أخرى تستطيع المساعدة، إذ ينبغي لوكالات التصنيف الائتماني المطالبة برؤية عقود التمويل، وفي حال رفض طلبها، ينبغي أن تنعكس ضبابية مثل هذه الممارسات في تصنيفاتها، كما ينبغي لصندوق النقد الدولي وغيره من الدائنين متعددي الأطراف ربط القروض بشرط الالتزام بمعايير الشفافية التي من شأنها أن تمنع هذه السرية. كذلك ينبغي لنادي باريس للدائنين السياديين الكبار أن يجعل الكشف عن نصوص اتفاقيات القروض الصينية أو الروسية شرطا لإعادة هيكلة الديون.

للسرية مكانها في نظام الحكم، لكنها لا مكان لها في التمويل الدولي للقطاعات العامة، وينبغي وضع نهاية لهذا الأسلوب قبل أن يُحدث أضرارا أكبر من تلك التي سببها بالفعل.

*وزير التخطيط الأسبق في فنزويلا، وكبير الاقتصاديين في بنك التنمية الأميركي سابقا، ويشغل حاليا منصب مدير مركز التنمية الدولية في جامعة هارفارد، وأستاذ الاقتصاد في كلية كنيدي بذات الجامعة.

«ريكاردو هوسمان*»

الصينيون يستخدمون صادرات النفط كضمان لديون المشروعات التي لا علاقة لها بالنفط مثل سد كوكا كودو سنكلير في الإكوادور
back to top