لغتنا «العليلة»

نشر في 25-12-2018
آخر تحديث 25-12-2018 | 00:05
 ناصر الظفيري نفتخر دائما بعبارة "لغتنا الجميلة"، ونحن نقصد اللغة العربية الأم أو اللغة الفصحى، نقصد ذلك لنبتعد عن اللهجات التي تتباين بين دولة وأخرى. مشكلة اللغة العربية الأساسية، هي إقصاؤها عن الاستعمال الدارج، وإحلال اللهجات الدارجة محلها. حين يتحدث شخصان من بلدين مختلفين في لهجتيهما يصرُّ كل منهما على اللجوء للهجته، متجاهلين أن هناك لغة أم تجمعهما، ويمكن أن تكون وسيلة اتصال سهلة وميسرة.

نحتفل في مثل هذه الأيام باليوم العالمي للغة العربية، وسبب هذا الاحتفال، هو اعتماد اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية المعمول بها في الأمم المتحدة منذ عام 1973. لكننا فشلنا، كأصحاب لغة سامية حافظت على كيانها منذ نشأتها حتى اليوم، في أن نجعلها لغتنا الشعبية، كما هي اللغة الرسمية في الإعلام والمخاطبات الرسمية. لا أحد يعرف سبب هذا الفشل، رغم أن العربية هي لغتنا التعليمية والأدبية والتأليفية. أتذكر أن مجموعة من الطلبة في جامعة الكويت قررت أن تختار يوما بالأسبوع تتحدث فيه باللغة الفصحى فيما بينها ومع الآخرين، لكن كمية الاستهزاء التي تلقتها المجموعة في يومها الأول كانت كفيلة بجعله اليوم الأخير لمحاولتهم النبيلة تجاه اللغة الأم.

لا أحد يجد في هذه اللغة، التي يقرأ ويكتب بها، وسيلة مناسبة للتواصل بها مع الآخر، فهي كائن غريب حين يتعلق الأمر بالحوار، وهي كائن غريب في النص الروائي، مثلا، يأتي السرد جميلا وشيقا بلغة عربية سليمة ورائقة، ليتخلله حوار دارج لا يليق بالسرد ولا يتناسب معه. كل ما في الأمر هو أن الكاتب يرى الدارجة لهجة تتناسب مع الواقع. الواقع الذي نتمنى أن نغيِّره للأفضل، وأن تقترب حواراتنا من لغتنا الأم، بدلا من تكريس دارجة أغلب كلماتها أعجمية. واستمرار هذه الفجوة بين الدارجة والفصحى سيؤدي إلى فترة انحطاط لغوي قادم.

في لقاء جمعنا بمنزل الأديبة ليلى العثمان مع الشاعر العربي الكبير محمد الجواهري قال بكل عفوية: في العربية ثلاثة شعراء؛ المتنبي وأحمد شوقي وأنا، مشيرا إلى نفسه. الذي يعتقد أن الجواهري قال ذلك غرورا لم يفهم ما قصده. وما يهمني في هذه الجملة، بغض النظر عن قصدية قائلها، هو علاقتها بالتطور اللغوي للشعراء الثلاثة.

استخدم المتنبي، المتوفى عام 965م، لغة بعيدة عن التعقيد، فلا يجد القارئ في شعره تلك اللغة المقعرة التي برع فيها شعراء قرون سبقته. أما شوقي، المتوفى عام 1932م، فشاعر ساهم مع مجموعة من شعراء العربية في إنقاذ اللغة، التي كانت تعاني عصر الانحطاط. كان شوقي مجددا أعاد إلى اللغة روعتها، وتبعه مجموعة من الشعراء ساهموا في إحياء اللغة العربية. والجواهري، المتوفى عام 1997م، كان شاعر القصيدة العمودية، الذي حاول الحفاظ على إرث الشعرية العربية، ولم يكن يرى شاعرا في زمنه يوازي إخلاصه للشعر واللغة. هذه الأزمنة المتباينة بين الشعراء هي أزمنة تتجدد فيها اللغة وتتطور، فاللغة ربما تمرض، لكنها لا تموت.

لا ننكر أن اللغة الدارجة تتفوق كثيرا على اللغة الأم، وتعمل على إضعافها، لكن علينا أيضا أن نعترف بأن اللغة الأم، على العكس من اللغات العالمية الحية، فشلت في احتواء مفردات العلم الحديث والتعايش مع ثورة التقنيات الحديثة، وهو ما تقبله اللهجة الدارجة. واللغة التي تفشل في التطور الطبيعي وتقبل العلوم ومصطلحاته هي لغة عليلة وتحتاج لإنعاش.

back to top