الشعبوية القديمة الجديدة

نشر في 19-12-2018
آخر تحديث 19-12-2018 | 00:35
 بروجيكت سنديكيت على مدار القسم الأعظم، منذ قرن من الزمن، كانت الشعبوية تُعَد على نطاق واسع ظاهرة خاصة بأميركا اللاتينية من غير ريب، فهي وباء سياسي متكرر الحدوث في دول مثل الأرجنتين والإكوادور وفنزويلا، ولكن تلك النزعة الشعبوية أصبحت، في السنوات القليلة الأخيرة، عالميةً، حتى أن السياسة انقلبت رأساً على عقب في بلدان متباينة كتباين المجر وإيطاليا والفلبين والولايات المتحدة. ويُعَد الرئيس البرازيلي المنتخب جايير بولسونارو أحدث مثال على اتجاه أكبر.

يكتسب الساسة الشعبويون قوة جذب، عندما يشعر العمال والمواطنون من الطبقة المتوسطة بأنهم ظُلِموا على يد النخب في بلدانهم. وفي هذه الأجواء التعيسة، يلجأ الناخبون إلى الشخصيات القوية التي تتمتع بالكاريزما الشعبية، والتي تركز في خطابها غالباً على أسباب وعواقب التفاوت بين الناس، وفضلاً عن ذلك يتسم القادة الشعبويون بنزعتهم القومية، وعُملتهم هي المواجهة، وعلى هذا فلابد من تأليب «الشعب» ضد المؤسسة السياسية، والشركات الكبرى، والبنوك، والمؤسسات المتعددة الجنسيات، والمهاجرين، وغير ذلك من المؤسسات الأجنبية.

بمجرد الوصول إلى السلطة، تميل الحكومات الشعبوية إلى تنفيذ سياسات تهدف إلى إعادة توزيع الدخل، وفي أغلب الأحيان، ينطوي هذا على عجز مالي غير قابل للاستمرار، فضلاً عن التوسع النقدي. وتنتهك السياسات الشعبوية، التي تشمل أيضاً تدابير الحماية، والتنظيم التمييزي، وضوابط رأس المال، أغلب المبادئ الأساسية التي تحكم الاقتصاد التقليدي، لكن الابتداع يعني ضمناً الانفصال عن الوضع الراهن. ووفقاً للشعبويين، فإن الانفصال عن الوضع الراهن هو الحل الوحيد، لأن الوضع الراهن هو مصدر كل عِلة أو داء تعانيه دولهم.

تقدم لنا فنزويلا مثالاً مناسباً للكيفية التي قد تترسخ بها الشعبوية، وقد وَقَع الحدث الأوليّ، الذي أعطى الزخم للحركة الشعبوية في البلاد، قبل نحو عشر سنوات من وصول هوغو شافيز إلى السلطة، ففي 27 فبراير 1989، اندلعت أعمال شغب في العاصمة كاركاس، بعد إعلان عن رفع أسعار تذاكر النقل بنحو 30 في المئة. ولإعادة فرض النظام، اضطرت الحكومة إلى استدعاء القوات المسلحة العسكرية، وبعد خمسة أيام من العنف، قُتِل أكثر من 300 شخص.

وقد مهدت هذه الواقعة الطريق أمام الانقلاب الفاشل الذي قاده شافيز في فبراير 1992، وخلال العامين اللذين قضاهما في السجن، استعد شافيز لخوض الانتخابات الرئاسية، وعندما أطلق سراحه، قام بزيارة المدينة تلو الأخرى لتقديم برنامجه الشعبوي. كان الاقتصاد متعثراً، وكان الفقراء يعشقون شافيز، وفي الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 1998، حقق شافيز فوزاً ساحقاً.

وتكمن أزمات مماثلة عميقة وراء صعود الشعبوية اليمينية اليوم، ففي البرازيل، يدين بولسونارو بشعبيته المفاجئة لأزمة اقتصادية واجتماعية كانت تختمر منذ ما يقرب من عشر سنوات، فأنتجت معدلات بطالة مرتفعة وقلصت الأجور في مختلف القطاعات. في الوقت نفسه، كانت البلاد غارقة في فضائح الفساد الضخمة والمتلاحقة، التي أسفرت عن سجن الرئيس السابق لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، ومحاكمة وعزل خليفته ديلما روسوف من منصبها.

على نحو مماثل، أرست الأزمة المالية في عام 2008 الأساس لظهور الشعبوية في الدول المتقدمة، فقد أظهر المواطنون العاديون بغضهم الشديد لعمليات إنقاذ البنوك، ثم صبت أزمة المهاجرين، في أوروبا وأماكن أخرى، المزيد من الوقود على نيران القومية.

هناك العديد من أوجه التشابه بين تجربة أميركا اللاتينية مع الشعبوية وتجربة الاقتصادات المتقدمة معها اليوم، فقد سجل العجز المالي في الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية ارتفاعات غير مسبوقة، وارتفع الاقتراض إلى مستويات بالغة الخطورة، والدرس المستفاد من التاريخ هو أن أزمة ديون ربما تكون في الأفق القريب.

ولا يخلو الأمر أيضاً من أوجه تشابه ملحوظة عندما يتعلق الأمر بالكيفية التي يدير بها القادة الشعبويون السياسة فعلياً، وخصوصاً تأكيدهم على حشد المظاهرات العامة للدعم الشعبي. من المؤكد أن الحشود، التي يجمعها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحت شعار «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، ليست كمثل مسيرات شافيز الحاشدة، لكن هجمات ترامب الساخرة ضد خصومه السياسيين، وخطابه المناهض للعولمة، واحتقاره للنخب، كلها توجهات مألوفة لكثيرين في أميركا اللاتينية. ومثلها كمثل الإدارات الشعبوية الأميركية اللاتينية، تلاحق إدارة ترامب أجندة تؤكد تدابير الحماية التي تهدف إلى حماية الصناعات المحلية من المنافسة.

علاوة على ذلك، يصر الشعبويون في أميركا اللاتينية، منذ فترة طويلة، على إدانة المؤسسات القائمة، وخاصة تلك التي يفترض أن توفر الضوابط والتوازنات عند ممارسة السلطة الحكومية، فقد انتقد شافيز محكمة العدل العليا، ثم شغل مقاعدها بالموالين المخلصين؛ كما هدد رئيس الإكوادور السابق رافائيل كوريا بإصلاح النظام النقدي المستقر في البلاد؛ وشن رئيس بيرو السابق ألان غارسيا هجمات لاذعة ضد صندوق النقد الدولي.

على نحو مماثل، ذَمّ ترامب بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي، واصفاً إياه بأنه «مجنون» و«مخبول»، بسبب سعيه إلى تحقيق هدف تطبيع السياسة النقدية. وفي إيطاليا، اقترحت الحكومة ميزانية تنتهك قواعد العجز في الاتحاد الأوروبي، كما تلفظ نائب رئيس الوزراء ماتيو سالفيني بكلمات قاسية في حق البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية.

هناك أيضاً اختلافات بطبيعة الحال، أكثر هذه الاختلافات أهمية أن العديد من الاقتصادات المتقدمة، حيث أحرزت القوى الشعبوية تقدماً ملموساً، لا تزال تفرض قيوداً على السياسة النقدية. وعلى عكس الحال في أميركا اللاتينية، لا يمكن إجبار بنك الاحتياطي الفدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي على تمويل الإنفاق المالي للحكومات. ورغم أن إيطاليا تنتمي إلى منطقة اليورو، فإن تأثيرها ضئيل جداً على كيفية عمل البنك المركزي الأوروبي، وما دامت هذه هي الحال، فمن غير المرجح أن تنتهي لحظة الشعبوية في إيطاليا إلى فورة تضخمية، كما كانت الحال تقليدية في أميركا اللاتينية، ففي الأرجنتين، على سبيل المثال، ارتفع معدل التضخم إلى 41 في المئة، بعد رئاستي نيستور كيرشنر وزوجته كريستينا فرنانديز دي كيرشنر مباشرة.

مع ذلك، تناثرت الأحاديث عن «خروج إيطالي» محتمل، تخرج إيطاليا بموجبه من منطقة اليورو وتعود إلى استخدام الليرة الإيطالية، ولكن ينبغي للإيطاليين أن يفهموا أنه عندما عادت بلدان أخرى (ليبيريا على سبيل المثال) إلى استخدام عملة محلية لم تنته أحوالها إلى خير.

والواقع أن الدرس الأكثر أهمية الذي يمكن استخلاصه من تجارب أميركا اللاتينية مع الشعبوية هو أن نهاياتها كانت دوماً سيئة، وفي نهاية المطاف، تجد الأسر المنخفضة والمتوسطة الدخل نفسها في حال أسوأ مما كانت عليه عندما بدأت التجربة الشعبوية.

* أستاذ الاقتصاد الدولي في كلية أندرسون للدراسات العليا في الإدارة بجامعة كاليفورنيا. أحدث مؤلفاته كتاب «العجز الأميركي: قصة فرانكلين ديلانو روزفلت غير المروية، المحكمة العليا والمعركة حول الذهب».

«سباستيان إدواردز*»

back to top