بغداد وقد انتصف الليل فيها

نشر في 17-12-2018
آخر تحديث 17-12-2018 | 00:05
 فوزية شويش السالم "بغداد وقد انتصف الليل فيها" عنوان طويل لأول رواية سيرية للكاتبة التونسية "حياة الرايس"، أستاذة فلسفة وخريجة جامعة بغداد 1981.

لها مجاميع قصصية وهي: "أنا وفرنسوا... وجسدي المبعثر على العتبة"، و"ليت هندا"، و"طقوس سرية وجحيم"، وديوان شعر بعنوان "أنثى الريح"، ومسرحيتان بعنوان" أثينا" و"سيدة الأسرار عشتار".

عنوان الرواية الطويل أخذَته من المذيع في راديو سيارة المرسيدس، التي كانت تقلهم من المطار إلى السكن الداخلي للجامعة في منطقة الوزيرية، ثلاثة شبان، وهي البنت الوحيدة بينهم.

قبل الدخول في التفاصيل، أحب أن أبين وجهة نظري في كتابة الروايات المتولدة من السيرة الذاتية، التي برأيي يمكن أن: 1- تُكتب بشكل مموه ورمزي داخل الشخصيات المكتوبة، بحيث لا تدل على سيرة كاتبها.

2- تُكتب كسيرة واضحة مباشرة بذكر الأسماء والتواريخ وتسلسل الأحداث بحياة الكاتب وذاكرته.

3- تُكتب سيرة مروية لا تعتمد على الزمان والمكان بشكل متسلسل تراتبي واضح، وأن يتم فيها التقطيع مثل الشكل الروائي في الزمن والمكان، ولكن تبقى حقائق السيرة مباشرة وصادقة، كما حدثت بالواقع تماما.

4- وهناك شكل السيرة الذي يعتمد الشكل الروائي بكتابته، من تقنيات وتشظية للزمان وبعثرة للمكان وتخييل للأحداث الحقيقة وغير الحقيقية، وخلق شخصيات وحيوات إضافية، كما يتطلبها السرد.

الحالة الرابعة وحدها هي التي يتحقق فيها العمل بشكله الروائي الكامل، الذي يُطلق عليه مسمى رواية، حتى وإن اشتمل على حقائق سيرية للكاتب، لكنها بهذه الحالة باتت لا تخص الكاتب، لأنها مثلها مثل أي نواة أو بذرة لحكاية أي كائن آخر.

رواية حياة الرايس ينطبق عليها السيرة المروية، أو كما سمى ماركيز روايته السيرية "نعيشها لنرويها". حياة سيرتها من واقع حياتها في تونس كفتاة من أسرة محافظة، والدها العروبي يكره الاستعمار الفرنسي ومدارسه، فأرسل ابنته لتكمل تعليمها العالي بجامعة بغداد، وهنا تعيش الكاتبة حياة مكثفة بالأحداث وبالوقائع، في زمن الثمانينيات من القرن الماضي، بكل ما كانت عليه مدينة بغداد من تقدم حضاري ورواج ثقافي وعلمي وازدهار فني، قبل الحرب العراقية - الإيرانية، ثم ما حدث بعد قيام الحرب فيها، وبالفعل "حياة الرايس" لها من اسمها حظ كبير، فهي حياة مكتظة بالحياة، تفاصيل التفاصيل، سواء في تونس أو بغداد، كل هذا العالم انطوى بسنوات عمر لا تتجاوز العشرين إلا بقليل، فمعنى هذا أن هناك حيوات أخرى لدى الكاتبة لترويها بفصول قادمة.

رواية تستمد أهميتها من توثيقها لزمن ومكان انمحى، ولم يبق له ذاكرة إلا بين أوراق كتب تروي ذاك الوجود الذي كان، كل أجيال التسعينيات وما بعدها لن يعرفوا ما كانت عليه مدنهم، إلا من الكتابات التي وثقت ماضيهم.

كم كانت تفاصيل الرواية قريبة منا، كل ما ذكرته الكاتبة له علاقة معرفية مع الكويت، التي أيضاً يتكرر ذكرها في الرواية، بحسب الطالبات العربيات اللاتي يعيش أهلهن في الكويت.

ربطتني الرواية بحبل مقارنات بأحداثها القريبة منا، فحدودنا مشتركة، وكذلك الأحداث والوقائع الزمنية كانت مرتبطة بما يحدث في بغداد.

أيضا وجدتني أقارن بين الكويت في السبعينيات والثمانينيات، وبين تونس التي توقعت أنها أكثر انفتاحاً وتقدماً عصرياً عن الكويت، وإذ بي أكتشف من الرواية العكس من ذلك، فالكويت كانت الأكثر انفتاحا وتقدما وازدهارا، وكانت بالفعل عروس الخليج.

وهذا وصف يبين فرق الطباع: "ويحز في نفسك أنك قادم من بلدان، جافة في التعامل الاجتماعي، فنحن في تونس لا نتبادل كلمات الحب والود يومياً، وليست في قاموس حياتنا الاجتماعية، بل نجد صعوبة في التفوه بها حتى في المناسبات. أسلوبنا في الحديث جاف وناشف وجاحد، وربما حاد في كثير من الأحيان إلا ما ندر، نظراً لطبع التونسي العصبي، وضغط الحياة الصعبة، أو هي ترجع إلى أبعد من ذلك، ربما لأجدادنا البربر".

حياة الرايس كتبت رواية سيرية مهمة وملمة بمعلومات وأحداث ووقائع، كانت حياتها شاهدا عليها في أحلك وأخطر سنوات الشك والتجسس والدسائس والموت "ببلاش"، وكان يمكن ألا تعيشها لترويها: "لحظات واشتعل الجو، كان ذلك أمام المفاعل النووي تماماً، في ذات المكان الذي كنا فيه".

ذاكرة تسجيلية ثقافية ممتعة، في رواية سيرية حقيقية لعوالم ربما كانت خافية عن الكثيرين.

back to top