في إنصاف وزير الإعلام ورقيبه الملام (2 من 2)

نشر في 15-12-2018
آخر تحديث 15-12-2018 | 00:07
 د. محمد بن عصّام السبيعي المستوى الآخر من تناول الموضوع ينصرف إلى دعوى أن الحظر يعوق التنوير والتقدم في المجتمع، والحقيقة أن هذا المستوى من التحليل يستوجب وضع تلك المحظورات في موقعها الصحيح من شجرة المعرفة، ففي تلك الشجرة هنالك علوم الطبيعة، تلك التي يقوم على أكتافها ما يتمتع به إنسان هذا العصر، كما في عصور سابقة، من جودة الحياة، من علوم الطب وصحة الأبدان، وتقنيات النقل والتراسل وغيرها، وهنا لا أظن أن كتابا واحدا في علوم الفيزياء، أو الرياضيات، أو الهندسة أو تقنيات الحاسوب مدرج في قائمة المحظورات.

وهناك من ناحية أخرى ما يدعى تجاوزا علوما من مباحث المجتمع والإنسان، وهذه تدعى تجاوزا علوما لعلة من عدم إمكان ضبطها مختبريا ولاعتمادها كلية على الذاكرة البشرية التي لا يركن إليها على الدوام، وإلى التأويل وأهوائه، فهي علوم إن تبرأت من نقائض البحث العلمي الرصين، وهي ليس بذلك، بل قرطاس رخيص إن تردت في مهاوي الأيديولوجيا أو وظفت بوقا للتدليس؛ لذا فشأن أشباه العلوم هذه كعلوم السياسة، والتاريخ والسوسيولوجيا وما يتشعب عنها مرشحة أن تكون مصادر للبلبلة والتجهيل. وهي تُمنع هنا وهناك كما يُحظر أي كتاب ينقل شهادة زور أو يدلس حقائق، كما في أوروبا تلك التي تشكك في حقيقة محرقة اليهود أو يسوق للإرهاب وإلحاق الأذى بالآخر.

وهناك من ناحية ثالثة المعارف الممتعة أو غير النافعة كما يمكن أن يطلق على كثير منها، فوظيفة هذه لا تخرج عن رفد القارئ، أو السامع والرائي إن شئنا التوسع في أشباهها، ببعض لحظات الترويح والخبرات السارة، وعادة ما ينطفئ ذلك بعد إتمام قراءتها أو استهلاكها.

وهذه الفئة من أسباب المتعة هي، على حد تقديري، ما يمثل سواد قائمة الحظر، فهي كثيرة ليسر تأليفها ولأن كثيرا منها يأتي كما قلنا أشبه ببطاقة شخصية لمؤلفها لتحقيق ذاته، خاصة حين تغفل التكلفة البيئية رغم تدني تكاليف الطباعة، فورق يستخدم لطباعة ما لا يغني ولا يسمن قد كان في الأصل أشجارا وغابات وارفة. مثل هذه المطبوعات محكوم عليها بالحظر بحسب التشريعات القائمة لأسباب تعود لخروجها عن النظام الاجتماعي أو استهزائها بثوابت المجتمع أو لانكبابها على مخاطبة غرائز الجسد، أمثلة لا يرى فيها المشرع صورة مثلى لتطور المجتمع.

وهذا أيضا أمر مشروع في كل مجتمع والتأفف منه هو في الحقيقة تعدٍّ على إرادة المجتمع وذوقه، وهنا بالذات يبدو لي المجتمع ممثلا بمؤسساته المعنية في موقع المتسامح مع الرأي حيال طغيان بعض الكتّاب في فرض إنتاجهم في نطاق مسؤوليته، فهو لا يمانع ولا يهدد بأي تبعات حال نشر هؤلاء بضاعتهم في مجتمعات أخرى مما يتقبل ذلك. ورغم ذلك وتهويناً للأمر مرة أخرى فلا أظن أحدهم يتعسف القول بأن حظر هذه الأدبيات أو هذا المستوى من الأدب يستتبع بالضرورة نشرا للظلامية وتعطيلا لعجلة التقدم، فحتى روائع الأدب العالمي، رغم البون الشاسع والمكانة المرموقة، لم تكن لتعطل مسيرة التقدم البشري لو لم يدر عنها أحد. فهل يزعم مثلا أن حظرا لأوليفر تويست كان سيعطل مسير الثورة الصناعية في بريطانيا، أو أن إحجام غوته عن أشعاره كان سيضع حدودا على تقنية الألمان، أو أن ضياع روايات دستوفيسكي كان سيجعل الثورة في روسيا تتخذا مسارا مختلفا... أو لو أن عجوز همنغواي لم يبحر في قاربه ذلك اليوم لما كتب لوادي السيليكون وجود؟! لو حق ذلك لكانت شطحة عظمى!

back to top