الآن... لا لعيش العماء!

نشر في 12-12-2018
آخر تحديث 12-12-2018 | 00:05
 طالب الرفاعي قد يبدو غريباً لدى البعض سماع عبارة: إن الوعي هو من يصنع لحظة الإنسان، ويقرر ويلوّن لوحة واقعه، وإن الواقع -في جزء كبير منه- هو من صنع وعي الإنسان اللحظي، وليس العكس. وهناك مدارس كثيرة في الولايات المتحدة، تحديداً، تشتغل على فكرة وعي اللحظة، بشكل علمي يتصل بعلم الأعصاب وعلم الفلك وعلم الرياضيات وعلم الفيزياء وعلم الطب النفسي. وبالتالي فإنه صار من المسلمات القول إن: الوعي يعالج جسم الإنسان، بما يقف وجهاً لوجه أمام وصفات الطب الجاهزة، والتي تعالج مرض الجسد بالعلاجات الطبية المعروفة. فاللحظة العابرة هي وحدها عمر الإنسان الكائن، ووحدها من يعطي الإنسان وجوده الماثل. لذا فإن عيش الإنسان في وعي سابق أو محاولة تصور ما سيأتي، سواء وعى ذلك أو لم يعِ، هو تفويت لحظة عيش غالية لا يمكن إعادتها، مقابل ماضٍ منتهٍ أو مستقبل قادم في عباءة التوقع.

إن أقسى ما يترتب على عدم عيش اللحظة الماثلة/ لحظة الزمن العابر، والتمتع بمباهجها، هو أننا نعيش واقعنا اليومي وفق تصور عقلي بحت، وتحت معاناة لعينة تسكن تحت جلود أوراحنا. منذ لحظة استيقاظنا صباحاً، مررواً بضجيج ساعات العمل، عبوراً على راحة الظهيرة القصيرة، ووصولاً إلى ساعات المساء. التصور العقلي المسبق يبرمجنا كي نعيش اللحظة، ونحن في بعدٍ عن بذخ خيراتها وطزاجتها وعن رتمها وحلو أنفاسها. التصور العقلي يجعلنا نغتسل دون أن نشعر بلذة الماء لحظة يلامس جلودنا بانتعاشنا، وانشغال عقولنا بأفكارها يجعلنا نتناول فطارنا اليومي دون الانتباه إلى طعم الأكل اللذيذ، وفكرنا المنشغل باللحظة القادمة يجعلنا في عماء عن جمال الطبيعة من حولنا لحظة نخرج من بيوتنا، فلا ننتبه ولا نستمتع بجمال الشجر ولا بنسمة الهواء العابرة، سواء كانت حارة أو باردة، ولا بلون السماء ولا رائحة اللحظة العابرة، بل يصل الأمر إلى عدم النظر إلى وجوه من يحيط بنا. ويبدو مألوفاً لدى الكثيرين أنهم يخرجون من بيوتهم يقودون سياراتهم، وينتبهون لحظة وصولهم إلى أماكن عملهم، فينتابهم استغراب كبير، ويأتي إليهم السؤال: كيف وصلنا؟ وكيف مررنا بالشوارع المزدحمة؟ وكيف عبرنا الإشارات الضوئية؟ وكيف، وكيف، وكيف؟! والإجابة الوحيدة هي أننا فعلنا كل ما فعلنا وفق البرمجة العقلية السابقة، والقابعة في عمق اللاوعي، والتي تقود الوعي!

ثقافة عيش اللحظة بفكر منشغل بما مضى، وبحسابات دبِقة بما سيأتي، وبالنقمة على اللحظة الحاضرة، وأنها لا تحمل جديداً سوى تكرار معاناة الأمس القاتلة، كل هذا مجتمعاً يجعل البعض يعيش لحظته دون طعم، يعيشها حانقاً عليها، ويعيشها دون عيشها.

البعض قد يرى هذا القول فلسفة بعيدة عن أرض الواقع، ويؤكد رأيه بقوله: واقعي صعبٌ وممرور، وليس من مخرج منه، وإنني عجزت أن أبحث عن بصيص أمل، فكيف يمكن لي أن أكون متفائلاً بعيش لحظة عابرة لا تقدم لي إلا مزيداً من ضياع عمري؟ ولا تضيف سوى معاناة جديدة لجبل معاناة يجثم فوق صدر عمري؟ أو أنني مريض ولحظة الحاضر لا تقدم لي جديداً سوى الألم والوجع.

إن الرد على هذه الآراء يأتي ببساطة من الوعي بأن الألم لا يعتاش إلا على الألم، وأن مزيداً من التفكير بالبؤس لا يصنع نجاحاً، وأن اجترار مواجع الماضي لن يغيّر تلك المواجع، وأن النظر بيأس إلى اللحظة القادمة لا يقل عن التضرع لها بأن تأتي بائسة.

إن البعض يهرب من النظر إلى اللحظة العابرة، والوعي بخيرها، سواء كان واعياً لذلك أو لم يكن، لأنه تعوّد أن يعيش في عماء عنها، وأنه برمج نفسه على أن يكون عبداً لوعي قاسٍ، ويأس لا يخلق إلا يأساً. الإنسان كائن صغير في محيطه، وهو جزء مما حوله، لذا يجب عليه أن ينتمي لهذا البيئة ويعيد النظر بهدوء في كل دقائقها. فإذا ما نظرت بشكل مختلف لما حولك، فإنه سيكون مختلفاً.

back to top