وفاة شاعر «الموت»

نشر في 11-12-2018
آخر تحديث 11-12-2018 | 00:05
 ناصر الظفيري "هذا الموت...

جسر للا نهاية عليه كلنا نفوت...

هذا الموت...

هاجس يبتدينا بلحظة التكوين...

ويرافقنا العمر من غير ضجة وصوت".

شعر الشعراء كحياتهم التي كُتب عليهم أن يعيشوها. كلماتهم انعكاس للزمن الذي قُدر لهم أن يساهموا فيه. ليس هناك أقسى من حياة شاعر عاش زمناً غير منتهٍ من الحروب والحُكم الديكتاتوري والإعدامات الجماعية. هكذا كانت حياة شاعرنا الراحل عريان السيد خلف. عاش زمن المأساة/ الملهاة أجمل أيام عمره. قادته قيادته الشمولية من حرب إلى حرب، وانتهى الأمر باحتلال بلاده، وضياعها تحت صراعات طائفية، مات هو ولم تنتهِ. هذه الحياة لم تمنح الشاعر فرصة ليعيش أغراضا أوسع من الشعر. كان الموت والحزن هما الأكثر حضورا في حياته. تعرفت على الشاعر عريان السيد خلف بالصدفة، لم أكن أعرف عن الشعراء الشعبيين الكثير خارج منطقة الخليج العربي، الكويت والسعودية تحديدا، سوى شعراء مصر، وربما ذلك بحكم الانتشار للأعمال المصرية إعلاميا. ولم يكن من العراق شاعر أكثر انتشارا حينها من الشاعر مظفر النواب، الذي اكتشفت مَن ينافسه. في الأسبوع الأول للمنفى أعارني الشاعر الصديق محمد النبهان شريطا كان يستمع إليه لشاعر يبدو مختلفا. كانت القصيدة الأثيرة في التسجيل رثائية الشاعر لشقيقه الذي قُتل في الحرب. ابتعد الشاعر فيها عن التزلف للقيادة والمتاجرة بدم شقيقه، واقتصرت القصيدة على علاقته المباشرة بأخيه.

ما يميِّز عريان السيد خلف هو إخلاصه لفكرته، لم يبع موقفا ومبدأ لأجل رغبة دنيوية. كان ثابتا في وقت عجز الكثيرون عن الثبات، ولو لم يثبت وانحنى للتيار، فليس لنا أن نلومه في تلك الظروف التي نعرف. كان الشعراء يتوافدون على مربد السيد الرئيس من كل عواصم العرب، وليس من عذر لشاعر عراقي أن يبتعد. وكما حصل مع الشاعر العراقي يوسف صايغ في أواخر أيامه حين أجبره النظام على حضور المربد، مصطحبا قصائد تمجد السيد الرئيس، لكن عريان وحتى رحيله لم يقترب من هذه المنطقة الخطرة. أما لماذا صمتت عنه القيادة، فلا نعرف هذا السر حتى الآن.

وما يميِّز قصيدة عريان السيد خلف هو هذا الحفر الفني في الكلمة الشعرية، لتشكيل الصورة الفنية الموشومة على حجر صلد يصعب مجاراتها. فإذا كان الشعراء يرسمون كلماتهم بأدوات تشكيلية مكررة، فلعريان قاموس نحت خاص أحيانا نحتاج إلى مَن يشرح الصعب من مفرداته. لم يُوغل عريان في مفردته بعيدا في المحلية، وربما هو يفعل ما فعله مظفر، في الاقتراب من حمى العربية الفصحى، للمحافظة على حق قصيدته في الانتشار. لكنه، وفق علمي، لم يمزج بين القصيدة العامية والقصيدة الفصحى، ولم يكن بحاجة لذلك. بقيت قصيدته مفعمة بالدهشة دائما، حادة وحارقة. رحل عريان السيد خلف ولم يحظَ بلحظة صفاء في بلده، ولا أعرف ما هي مشاريع أصحابه. أتمنى منهم أن يعملوا على المساهمة بطباعة ديوانهم الكامل، وتقديمه إعلاميا، كما يليق بأحد شعراء العربية الكبار.

back to top