حمل مهدّد

نشر في 08-12-2018
آخر تحديث 08-12-2018 | 00:00
No Image Caption
حنين

«ستقع الحرب حتماً.. ولكن سترى أنها لن تكون سوى البداية. لربما ستكون حرباً كبيرةً، لكنها أيضاً لن تكون سوى البداية. إن زمناً جديداً يبدأ، وسيبزغ منه عالم جديد مخيف».

هرمان هسه

رائحة قهوة آتية من بيت ما، هل غادر النوم جفوناً أخرى؟ خلف أرقها ترقد خيبة كبيرة مثل كابوس هاجم راحة جفنيها، ولكنه حقيقة تحبط محاولاتها الفاشلة لدفع باب التفكير، حقيقة أكثر قسوة من كابوس صُنع في معامل القهر.

تنصت للرائحة التي تروي أرق أصحابها، وتحاول بجهد مساعدتهم على النوم. الكفايين ليلاً لا يعمل بجد بعد يوم مرهق عَمِل فيه على تنبيه أعصابنا بما يكفي لاستنزاف جهوده، فقرر أن يُعدّل هو أيضاً ساعته البيولوجية ويرتاح ليلاً. للقهوة ليلاً رائحة النعاس.

تراءى لها صفا، راحت تتأمل إطلالته الجميلة، حاولت إبعاده لكنه أصرّ على لعب دوره في مسرح خيالها الليلة. لن تعترف يوماً كباقي العشاق بأن من حقها أن تعاني من قلب ضعيف أمام الحب أو تسمح بأن تلازمها الدموع، فهي تستنبط من كل امرأة مصدراً لا ينضب للثورات النسائية. تريد حباً معفى من الأحزان، أتى صفا من غرب ملقاة عليه تهم لا تُحصى، يثبته التاريخ في وثائق غير قابلة للنسيان، أثرها لا يزال على أجساد البعض، وشهادات مغلق عليها بإحكام في غرف معزولة في حجرات الذاكرة. جاء صفا ليتعرف إلى شرق هي منه، وهو ادعى انتماءه إليه. ومنذ غادر تتأرجح أعذاره في مهب أمنيتها بأن يعود غداً. نيسان؟ كيف اختار اليوم التاسع منه ليعدها بعودته، هل أراد أن يحيي معها ذكرى السقوط؟ وهل يجتمع حب وسقوط؟

أخذت قسطاً مريراً من هجمة حلم قسرية، فعادت إلى شرودها في عالم اليقظة، كطفل يجمع الأفكار المبعثرة على رقعة الشرود كما يجمع الهالات البيضاء من الغيوم ويصنع منها سماء مجهولة الملامح.

غداً يحتفلون بذكرى الخيبة، كيف نسمي الحزن احتفالاً؟ نغسل به الأماني من عارها ومن شرف البقاء، نودعها فلا مكان لها بين خساراتنا. سنتفرغ لاستعادة ذاتنا من حلقات الوهم ونسكن في ظل منسي.

لِمَ لا؟ إن اعتدنا أن نحتفل بالوداع...

حملت ألم أفكارها الثقيلة وحاولت الجلوس بها، فلم تعد هناك جدوى من تكرار فشلها في اقتحام عالم النيام.

رموا شرودها بماء أغنية ثورية، سيارات تُسابق الحماس الموسيقي، تنتفض الأغاني، وتقاوم تصريحات وطن بأعلى نوباتها، تتزاحم الأصوات والكلمات...

انهض للثورة والثأر.. انهض كهبوب الإعصار.

وأخرى تناجيها...

وين الملايين؟ الشعب العربـي وين؟

ضحكت بقلب مهزوم وبصوت سمعته وحدها، تذكرت إجابات جدها عن سؤال يتكرر بين لحن الثورات.. وين الملايين؟ الشعب العربـي وين؟ الشرف العربـي وين؟ في كل مرة كان يعدّل إجابته، فسؤال مكرر يحتاج إجابات غير مكررة، كالسيارات المعدلة تعطيها الإضافات نكهة مجنونة لكنها تبقى ذات طابع خاص، تشبه السيارة لكنها ذات مواصفات جريئة، يقنعك مظهرها لكنها تحمل في تركيبتها جنساً جديداً مهجناً يدعي أصوله من عالم المحركات. كذلك كانت إجابات جدها المبتكرة تشبه الحقيقة لكنها أعمق بكثير. (الشرف العربـي! يضحك بسخرية ليش وينه؟ الدم العربـي؟ وين كاينين هذول؟ ما نشف من زمان، الشعب العربـي وين؟ في... يصمت، وتُبقي شفتيه على السخرية ذاتها، ويعرف الجميع مكانه).

كان جدها أسمر، عسلي العينين، تشبه عيناه لون الشمس حين تهبط آخر النهار ممسكة حبال الألوان لتحيك بداية الظلام على رقعة صفراء ممزوجة بحمرة داكنة، وتترك لنا لوحة فنية بأبعاد المستحيل لنعيش ذهول جمالها حتى نلقاها من جديد بعد أن تغطينا لساعات سماء سوداء تزينها نوبات الدقة التي تدخلها النجوم لتستقر كل نجمة في مكانها وترش علينا نزراً يسيراً من النور. لم يكن جدها يسمح لأي فرصة بأن تغيب إلا بعد أن يستثمرها بغزل ذاتي لشبابه مؤكداً أن آثاره لا تزال موجودة شاهدة على ما يقول. عاش جدها معها ومع والدتها بعد وفاة جدتها، وبعد إصرار والدتها، لم يبقَ حينها من كيد النساء شيء إلا ومارسته لإقناعه.

أثناء الحرب كانت ترى الأمل بالنصر من عينيه الزاهيتين، ولثقتها به مارست كالجميع خدعة التمني. لكن أمام منعطف السقوط يقف الأمل ضئيلاً، ويصر على أخذ آخر أنفاسه كحق مشروع قبل تنفيذ الإعدام.

نظرتْ حنين من نافذة غرفتها إلى السماء السوداء تبحث عن سكينة مفقودة، لا تزال النجوم قليلة حذِرة تترصد تغيرات المرحلة الجديدة لنفطنا. سوادها يميل إلى الزرقة، ذلك أن من نرجسية النهار مذ دعا الله النور نهاراً وكان أول مخلوقاته، أن يُبقِي على زرقة سمائه وعدم تسليم كامل صلاحيات ألوانه للّيل أثناء مناوبته اليومية على حراستنا.

عمان ليلاً كالسماء، مظلمة متبرجة ببضعة أضواء متناثرة كبقايا موجة برق، منذ احتدت وطأة السياسة والاقتصاد حولها وعمان تقتلع أشجاراً لتزرع بدلاً منها أكوام الحجارة وأشباه الأنوار، لتتسع أحياؤها بعد رحيل اللاجئين إليها تجنباً للموتين النفسي والجسدي وحماية ما تبقى من أوطانهم فيهم.

لسنوات، وحدها الأشجار كانت سبب حبها لعمّان، كانت تلك إحدى المرات القليلة التي استطاع جدها خداعها، لكن رجلاً مفرطاً بالوطنية لم يجد سوى بضع شجرات حوله في أواخر الثمانينيات ليقنعها أن عمان أجمل المدن، مستعيناً بطبيعتها وجوّها اللذين تُحسد عليهما، بينما كانت تتذمر من روايات سعاد ابنة جارتهم خديجة التي تتوه بين القصص وهي تروي جمال دبـي، وسحر البحر، ومدن الألعاب الملهمة وطعم الشوكولاته المختلف والأصناف الكثيرة التي لا تصل إلى عمان أصلاً، ما يجعلها متميزة عنها. البحر وحده كان يكفي، لكنها تقصد أن ترهقها بالملذات، وحين كبرت ونضجت نواة عشقها الوطنية، أدركت خديعة جدها لها، لكن حبها لعمان جعلها تتجاوز خديعته وتفتخر بها، كان دائماً يردد بنبرة جسورة: أن تعيش في بلدك يعني أن تبقى عزيزاً.

تذكر حين انتقل جارهم بديع العامري إلى حيهم قبل سنوات هرباً من الحرب، حاول حينها سكان العمارة وقف عملية تأجير الشقة الفارغة لعراقي، منعاً لاختلاط الجنسيات، فالعمارة يفوح منها عبير الجميد كل جمعة ولا تحتمل أي وصفات أن تعكر صفو التحامهم العرقي اللذيذ، ولم يكن هذا ليؤرق وحدة بديع بشيء، فقد أراد قطع صلته بجيرانه حتى لو لم يشاركوه رغبته تلك.

تُرك الطابق الأخير في عمارتهم فارغاً لأعوام، لأن صاحبه أبا مالك يطمح إلى أن يسكنه ابنه حين يعود من غربته ويتزوج، بعد أن أنكر زواج ابنه في بريطانيا من زميلته. بالنسبة إليه زواج كهذا مؤقت «نص كم» كما يقول، ما في أحسن من بنت البلد مرجوعه لبلده. ثم أخيراً استطاع حسن ابنه الأوسط أن يتوسط عنده لأستاذ جامعته في بغداد الذي لا يزال على تواصل مع حسن وطلب منه أن يساعده ليجد شقة لصديقه الذي قرر مجبراً الرحيل من بغداد إلى عمان، فقبل أبو مالك وساطة ابنه حتى عودة مالك من بريطانيا، وأصبح بديع بذلك جارهم.

أما هي فتسكن الطابق الأرضي، تخصص أمها ساعات يومياً للعناية بشجرتي المشمش والدراق المزروعتين في أرض صغيرة تتقدم مدخل منزلهم زرعتها بالنعناع والميرمية والزعتر، مساء كانت تستقبل ثرثرات نساء العمارة وبعض الجارات من العمارات المجاورة وفي بداية الصيف يحرسن جميعهن نواة المشمش والدراق حتى يتسنى لهن تذوقهما حين ينضجان.

يحتفظ بديع بشاربين كبيرين يسبقان جسده كظل راقص على هامش رقعة النصر المزعوم، وعقدة غليظة بين الحاجبين تعتقد للوهلة الأولى أن طبقة جلدية سميكة تتدلى من منتصف جبينه.

وكل ما عُرف عنه حين أصبح جارهم، بيت شعر اختار أن يزين باب شقته بدلاً من اسمه، فكان اسمه المنقوش على لوح صغير معلق عند طرف الباب الأيمن «ونحن في بغداد من طين يعجنه الخزّاف تمثالاً». السياب

***

قذائف الكلمات حافرة آثارها في أركان منزله جميعها، تتمدد الكتب على رفوف أفقية متوازية تحيط جدارين على الأقل في كل غرفة من شقته، حتى الممر الرفيع بين الصالون وغرف النوم افترشت الكتب أرضيته مرصوصة في ثلاث كراتين مستندة إحداها إلى الأخرى أخذت شكل سلسلة كرتونية محشوة بورق وحبر ورصاص نثري يثير الفضول، وبهوس الكلمات التي انفجرت حتى وصلت حافة شقته ورشقت بابها الخارجي، استطاعت أن تلتقط فرصة الحديث معه وتُدخل هدفاً صعباً في مرمى محاورته.

غبش عام يخفي وضوح صورته المتوارية خلف الباب، دخان غليونه سبقه إلى الخارج ورائحته أحاطتها تستكشف هوية الزائر الأول له منذ انتقاله إلى عمان، وحرارة الصيف فارضة هيبتها، تنتظر معها إذن الدخول، تكفي ابتسامتها التي انعكست على عينيها فحولتهما إلى شعاع لؤلؤي ساحر لتقمع بنظرتها تمرد ريبته، وتجعل رأسه يومئ مذهولاً ويعطيها إذناً أبدياً بالتجول في ممرات أسراره.

آخر ما تتذكره من العالم خارج بيت الكتب هذا تذمّر أمها ورفضها زيارة جارهم الغريب، لكن أمها اعتادت على جنون ابنتها وإصرارها، ولم تكن لديها حجة قوية لمنعها بعد أن أصبح هذا الغريب يتبادل حديثه النادر مع جدها في قهوة تبعد شارعين عن عمارتهم وتحتاج دقائق من المشي يتشارك فيه الرجلان خطواتهما كل شهر أو اثنين. حديثه كان نادراً وخروجه من البيت - المكتبة، كما كانت تسميه، نادر. لذا أطلقت عليه لقب نادر إن أرادت وصفه لصديقتها كندة حين تسرِّب إليها بعض السخرية السياسية التي تقتبسها من جلستها معه وهو المحمَّل بعرق الحرب الذي لا يمحوه النسيان.

قبل أن تجلس، لمحت عنوان كتاب يفتح صدره رحباً أمام كل قارئ عابر مستنداً إلى طاولة خشبية يدوية الصنع، كصندوق متلاحم الأطراف بينهما وحدة خشبية منسجمة، أرادت لو حولتها لوحة تصف بها ما يحتاجه العرب في أزماتهم، وقد سمحت لبعض المسامير أن تحدث ثقوباً في أطراف الزوايا لتزيدها ثباتاً وتمنع أي احتمال غير مرتقب لبعد اللوح الخشبـي عن أخيه.

السدة العلوية ظهرت لها لاحقاً، تشتد أزمة أوراق مبعثرة ومخطوطات لاحت أطرافها كأنها تستغيث من ضيق المساحة. لا أحد يمضي لإنقاذها فتبقى في مكانها مهيأة في أي لحظة لفك رباطها بباقي الأوراق ورمي نفسها على مدى مترين ونصف متر لتصل إلى أرض ملساء.

للمرة الأولى ترى مكتبة معلقة، فقد جرى العرف أن تجمع السدة العلوية في البيوت القديمة أشياء أحالها أهل البيت إلى التقاعد، واحتراما لتفانيها سنوات في العمل تجنب أصحابها التخلص منها فركنوها في سجن التقاعد، واستبدلوها بلوازم حديثة يافعة أكثر تطوراً.

لم تقدّر يوماً أهمية الذكريات التي تقطن السدد العلوية. كانت جدتها تزور السدة بانتظام، تمسح الغبار عن كل القطع التي رحلت إليها كأنها تمسح عنها العتب وتعتذر لها عن ضيق المساحة، بعد وفاة جدتها زارت السدة العلوية مرة وحملت إلى سكانها السلام وتركتها تغفو في سكينة الماضي. البيوت الحديثة أكثر تكريماً للذكريات فقد أصبحت تُخصَّص غرف صغيرة لتخزين الماضي وتفاصيله.

back to top