الآن وثقافة عيش المتعة

نشر في 05-12-2018
آخر تحديث 05-12-2018 | 00:05
 طالب الرفاعي أجرى عالم أميركي تجربة قام بموجبها بجمع مئة شخص بين رجل وامرأة، واشترط أن يكون كل منهم جاوز الثمانين من عمره. أخذهم إلى قرية تم ترتيب مناحي العيش فيها لتكون كما هي الحياة خلال خمسينيات القرن الماضي. في أكثر من جلسة أفهم العالِم جميع المشتركين بأن كل واحد منهم عليه أن يعيش لحظته العابرة بوصفها لحظة عيش في الخمسينيات. كل ما في القرية كان ينطق بعالم الخمسينيات: الشوارع، المباني، السيارات ووسائل النقل، الأسواق، المقاهي، المستشفيات، أكشاك الجرائد، طبعات الجرائد، الكتب، محلات البيع، أنواع البضائع والماركات التجارية، الملابس، الأحذية، موديلات حقائب النساء، وحتى أبسط الأشياء. كل ما يحيط بالمشتركين كان ينطق بعالم الخمسينيات، وكان الطبيب والهيئة التمريضية معه يؤكدون على المشتركين ضرورة أن يمارسوا حياتهم الاعتيادية كما لو كانوا في أيام الخمسينيات.

استمرت التجربة قرابة الشهر، بعدها تمَّ إخضاع المشتركين لمختلف الفحوصات الطبية، وكانت المفاجأة الكبرى أن استجابة الجسد كانت صادمة، لقد استعاد المشتركون شبابهم، وصاروا يتصرفون كما لو أنهم في الخمسين من أعمارهم.

انتظمت خفقات قلوبهم وجريان الدم في شرايينهم وتنفسهم وحركة مشيهم، وكأنهم في الخمسين من أعمارهم، حتى مناعة الأجسام وقوة تحمُّل العظام، بل وصل الأمر إلى بويصلات الشعر ونشاط الحياة الجنسية الخاص بهم، وبما أعطى مؤشراً مهماً ودالاً على أن الإنسان إذا ما عاش لحظة الزمن العابرة بوعي متقد ومحب للحياة، فإن جسمه سيجاري وعيه، وسيحظى بحياة شابة، ومتى ما مارس حياته ولسان حاله يكرر: أصبحت عجوزاً، فإن جسده سيسعى لتحقيق وتأكيد قوله، ويتهالك كأسرع ما يكون.

وعي الإنسان وحده يقرر نمط الحياة الذي يحيا. فإذا ما انتبه إلى أن لحظة عمره التي تمر لا يمكن أن تعود، وأن عليه أن يحيا اللحظة بطعمها وحدثها ورتمها، فإنه يعيش وعياً لحظياً متجدداً، وبما يساعده على التمتع بلحظات عمره. وعلى العكس من ذلك، مَن يرهن لحظة العيش الحاضرة للتفكير والتأسف على لحظة عيش انتهت أو ذكرى مرَّت ولا تزال تسيطر عليه، أو حتى الخوف مما يحمله الغد، ولا فرق بين التوجع على لحظة ماضية أو الخوف من لحظة قادمة، ففي المحصلة تحترق اللحظة الحاضرة دون أن يذوق رحيقها الإنسان، ويمر عمره وهو في بئر البؤس، وليس لشيء سوى وعي خاطئ بقيمة اللحظة العابرة.

ثقافة عيش اللحظة العابرة ترتبط أساساً بالوعي، وبقدرة الإنسان على مراقبة وعيه. فوعي الإنسان وانتباهه إلى أنه مخلوق يعيش لحظة عابرة لا يمكن أن تقف أو تتكرر، لحظة غالية يجب عليه تسخيرها في كل ما من شأنه أن يسعده ومن حوله، وأن يقدم له ولمن حوله الخير والحب والسلام. خلاف ذلك تتسرَّب لحظات عمر سابقة لتأكل لحظات العُمر الآنية. وهذا غالباً ما يؤدي إلى خلق إنسان متشائم، إنسان لا يعرف طعماً للحظته العابرة سوى طعم المرار الذي خلفته لحظة سابقة في فمه.

إن لحظة الحياة متجددة، ومتغيرة، ويستحيل لأي لحظة أن تشبه لحظة سابقة أو لاحقة، حتى لو تراءى للبعض خلاف ذلك. فالزمن لا يعود أو يتكرر، والماء العابر في النهر لا يمكن أن يكون نفسه في لحظتين متتاليتين.

أولى علامات وعي الإنسان لوعيه، أن ينتبه لما حوله من البشر وجميع عناصر الطبيعة، وأن يقتنع بأنه جزء صغير في عالم شاسع، لدرجة لا يمكن الإلمام بها، وأنه يؤثر ويتأثر بما حوله، رضي بذلك أو لم يرضَ.

كيفما تنظر للعالم ينظر إليك، هي القاعدة الأساسية لعيش المتعة أو الضيم. فإذا أحسَّ الإنسان بأنه ضحية العالم الذي يحيط به، فإن العالم سيسعى لتأكيد هذا الإحساس لديه، وإذا عاش مؤمنا بأنه منسجم وسعيد مع مَن حوله، جرى كل ما حوله ليثبت إليه تلك القناعة.

الإنسان يقول للعالم من حوله أحبك، فيجيبه العالم وأنا أحبك أكثر، وإذا نفخ متأففاً بكرهه، ردَّ عليه العالم: وأنا أكرهك أضعافاً مضاعفة!

back to top