التعليم العام... وتحديات المجتمع العثماني

نشر في 29-11-2018
آخر تحديث 29-11-2018 | 00:10
لم تعرف الدولة العثمانية الاضطهاد والتمييز الذي عاشته أوروبا في بعض المراحل ضد بعض المذاهب المسيحية، ومع أتباع الأديان الأخرى، وكانت مجالات اقتصادية وسياسية وثقافية عديدة مفتوحة أمام غير المسلمين إن أحسنوا الاستفادة منها، وبالطبع لا يمنع هذا كله من التأكيد على أن الدولة العثمانية كانت بحكم دينها لا تساوي بين المسلم وغير المسلم.
 خليل علي حيدر لم يكن التمييز ضد المسيحيين واليهود، كما تؤكد مراجع عديدة، قاسيا أو شاملا في الدولة العثمانية، ولم تعرف الدولة الاضطهاد والتمييز الذي عاشته أوروبا في بعض المراحل ضد بعض المذاهب المسيحية نفسها، ومع أتباع الأديان الأخرى، وكانت مجالات اقتصادية وسياسية وثقافية عديدة مفتوحة أمام غير المسلمين إن أحسنوا الاستفادة منها، وأدى غير المسلمين كالأرمن واليهود دورا اقتصاديا بارزا، وبالطبع لا يمنع هذا كله من التأكيد على أن الدولة العثمانية كانت بحكم دينها لا تساوي بين المسلم وغير المسلم... وهو موضوع لا فسحة هنا للخوض فيه.

كانت الدول الأوروبية والغربية وكذلك اليابان قد أدركت الأهمية القصوى لنظام التعليم العام ودوره في النهوض بالشعب والارتقاء المهني، ولم تكن هذه هي الحال في المجتمعات العربية والإسلامية مما جعل الكثير يفضلون إرسال أبنائهم إلى الحقول والحرف المهنية بدلا من المكاتب أو الكتاتيب الدراسية، والتي كانت بعيدة عن مدارس أوروبا وأميركا في مناهجهما ومقتصرة في الأغلب على المعارف الدينية واللغوية.

يقول د. علي الوردي عالم الاجتماع المعروف عن العراق "كان النظام الطبقي في العهد العثماني مغلقا أو شبه مغلق، فالولد يمتهن حرفة أبيه في الغالب، وكان الشعار السائد بين الناس: "ما يصيبك إلا نصيبك"، وحين فُتحت بعض المكاتب أي المدارس الحديثة في أواخر ذلك العهد لم يدخل فيها سوى أبناء الموظفين أو الأفندية كما كانوا يسمونهم وقليل من أبناء المتصلين بهم من الوجهاء، أما عامة الناس فلم يدخلوا أبناءهم في المكاتب، إذ لم يخطر ببالهم أن أبناءهم يمكن أن يكونوا أفندية في يوم من الأيام، أضف إلى ذلك أن الشائع بينهم هو أن المكتب يفسد الأولاد، ومن هنا نشأ المثل الدارج "ذب الكتب من إيدك شغل المكتب ما يفيدك".

(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، د. علي الوردي جـ1 إيران - قم، 1996، ص291).

غيّرت الحرب العالمية الأولى ومستلزمات إدارة الحكومة والدولة العراقية مفاهيم الناس رأساً على عقب، وتزايد الإقبال على الدراسة والمدارس النظامية الحكومية عاماً بعد عام، وأصبح كل من يدخل المدرسة يطمح أن يكون في المستقبل أفندياً يشار إليه بالبنان، واختفى شعار "القسمة والنصيب" من أذهان هذا الجيل، حيث حل محله شعار "كل من جدّ وجد، وكل من سار على الدرب وصل". (د. الوردي).

واستطاعت الحكومة العراقية بكثير من الصعوبة أن تستوعب المتخرجين من المدارس، ويضيف د. الوردي، "لا بد أن يأتي يوم تتوقف فيه الدوائر عن استيعاب أي موظف جديد إلا بنطاق ضيق جداً، ويخيل لي أن هذا اليوم قريب". لقد حل هذا اليوم في معظم أو كل الدول العربية.

ويتنبأ د. الوردي بكارثة البطالة العراقية، وربما بطالة الخريجين في العالم العربي والإسلامي فيقول: "إن عدد تلاميذ المدارس الابتدائية في العراق اليوم يزيد على المليون، مع العلم أن عدد سكان العراق كله لا يزيد على العشرة ملايين، وهؤلاء التلاميذ كلهم يأملون أن يدخلوا المدارس الثانوية بعد تخرجهم من المدارس الابتدائية، وأن يدخلوا الكليات بعدئذ وأن يحصلوا على الوظائف اللائقة بهم أخيراً، وهم إذا فشلوا في دراستهم كانوا مشكلة لأنفسهم وأهليهم، وإذا نجحوا كانوا مشكلة للحكومة، فليس من السهل عليهم أن يعودوا إلى مهن آبائهم، وليس من السهل عليهم كذلك أن يعودوا إلى عقيدة القسمة والنصيب".

ويروي الباحث محمد كرد علي في الجزء الأول من مذكراته عن ردود فعل بعض النخب في سورية لحماية نفسها من سيل المتعلمين والخريجين إذا تزايد عددهم، ويقول: "لما ضعف العلم الإسلامي حاول بعض الأسر القديمة التي استحل أبناؤها الاستثئار بالمدارس والأوقاف والوظائف الدينية بدون أن يكون لهم شيء من العلم أن تبقى لهم هذه المغانم والمظاهر وقفا أبديا على الدهر، وفكروا في أسهل حيلة تديم عليهم نعمتهم، فكان منها منع الشبان من التعلم ليكون القضاء والإفتاء وأعمال التدريس والوعظ والخطابة والإمامة حكرة لهم ولأعقابهم من بعدهم، وممن دأبوا على هذه الدعاية شيخان من دمشق، كان يعز عليهما أن يتعلم إنسان، وما كان عيشهما يطيب إلا إذا صدّا الطلبة عن العلم". (ص27، مذكرات كرد علي).

وكان بعض شيوخ الدين يقارن بين دخل الوظائف الدينية كالإمامة والخطابة، وبين دخل التجارة! وقد سمع كرد علي وهو طالب علم في أول نشأته أحد هؤلاء الشيوخ ينصح والد كرد علي بأن يخرجه من حظيرة الدرس إلى التجارة، وكان الشيخ يقول لوالده شاكيا متذمرا ومحمد كرد علي يسمع: "وهل ترانا نحن العلماء في حالة حسنة، وإن أحدنا ليطلب العلم ثلاثين سنة وغاية ما يحصل عليه راتب ضئيل في إحدى المدارس، أو إمامة في أحد الجوامع، قد لا يتجاوز راتبها المئة والخمسين قرشا، فإن كنت تريد الخير لبيتك فاقطع ابنك عما شُغلنا به قبله أعواما، وما عاد علينا بغنى ولا رفاهية".

ويتحدث المؤرخ الأردني المعروف د.علي المحافظة عن الفقهاء وشيوخ الدين وأوضاع التعليم والأزهر في زمن العثمانيين، وبخاصة القرون الأخيرة، فيقول "إن علماء الدين كانوا يعتبرون أنفسهم حماة الشريعة والحريصين على التمسك بمذهب أهل السنة، إذ كان دين الدولة الإسلام ومذهبها الرسمي هو المذهب الحنفي، وكان على رأس هؤلاء العلماء شيخ الإسلام".

وكان مركزه معادلا لمركز "الصدر الأعظم" أي رئيس الوزراء، ورغم أن شيخ الإسلام كان يصدر الفتاوى في القضايا الكبرى بما في ذلك فتوى بعزل السلطان إن لزم الأمر، كما كان له حق إعلان الجهاد، ولكن شيخ الإسلام من الناحية العملية كان يُعيَّن من قبل السلطان.

ويندرج في طبقة العلماء المفتون والأئمة والخطباء والوعاظ والمؤذنون والقائمون بشؤون المساجد، وأصبح العلم مع الزمن، وهو بالطبع العلم الديني، احتكاراً لأسر معينة، وغدت طبقة العلماء، يقول د.المحافظة، "طبقة اجتماعية ذات امتيازات خاصة، واتخذت موقفا صلبا ضد كل تجديد في عالم الفكر، وكان العلماء هم المشرفون على التربية والتعليم في الدولة. وفي البلاد العربية كان الأزهر أضخم المؤسسات، وكانت معظم المدارس والمعاهد تعيش من الأوقاف والتبرعات ويعتبر الأزهر أغناها لما كان يملكه من عقارات وقفية وما يصله من معونة حكومية.

ماذا عن مناهج التعليم ومراحل الدراسة؟

يقول د. المحافظة: "لم يكن للتعليم في هذه المدارس والمعاهد برنامج محدد، فقد كانت السنوات الثلاث الأولى مخصصة للدراسة الابتدائية، كما هي الحال في المدارس القرآنية، ثم يتابع التلميذ دراسة الدين والفقه والمنطق والحساب البسيط على يد أحد الشيوخ المشهورين، وغالبا ما يتخصص الطلبة بعد ذلك للالتحاق بوظيفة كاتب أو قاض أو مفتٍ أو إمام، وقليلون منهم كانوا يستمرون في دراساتهم حتى يصبحوا معلمين أو أساتذة في المعاهد العليا".

(د. المحافظة الاتجاهات الفكرية عند العرب، في عصر النهضة 1798- 1914، بيروت 1987، ص 12-14).

ويحدد محمد خليل المرادي أربعة مثالب أو عيوب في تدريس الأزهر تكشف عن مشاكل منهجية وإدارية عميقة وهي: "1- قبول أبناء الذوات في الأزهر ممن لا يتمتعون بمستوى تعليمي جيد.

2- تدني مستوى الأساتذة.

3- استئثار بعض الأساتذة بتعليم كثير من المواد بحيث يعينون بدلاء عنهم لقاء راتب زهيد.

4- تحديد الموضوعات وضيق النظر في التدريس، فقد كان الهدف في التعليم تلقي بعض المعلومات المحدودة، أما تجاوز هذه المعلومات أو مجرد التساؤل عن صحتها فقد يثير شكوك ومقاومة العلماء أو قد يصل إلى حد العقاب والطرد من المعهد أو فقدان مصدر العيش ناهيك عن التشهير".

(المرجع نفسه، ص15 - عن كتاب المرداي "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" جــ 2 ص 282).

الحرب العالمية الأولى ومستلزمات إدارة الحكومة والدولة العراقية غيّرتا مفاهيم الناس رأساً على عقب وتزايد الإقبال على الدراسة في المدارس النظامية عاماً بعد عام

الكثير من المسلمين كانوا يفضلون إرسال أبنائهم إلى الحقول والحرف المهنية بدلا من المدارس أو الكتاتيب الدراسية
back to top