فساد «التعليم العثماني»

نشر في 22-11-2018
آخر تحديث 22-11-2018 | 00:10
 خليل علي حيدر بينما كان التعليم النظامي العام ينتظم في أوروبا وأميركا ويترسخ، كان هذا النوع من التعليم البالغ الأهمية لتقدم الأمم إما غير موجود بشكله الحديث في البلدان العربية والإسلامية كإيران وتركيا والقارة الهندية وغيرها، وإما كان يعاني ألوانا من النقص والتخلف، إن وجد على الإطلاق.

هذا عن تعليم الأولاد والشباب أما عن تعليم الفتيات والنساء فلا تسل، وبخاصة الكليات والمعاهد العليا والجامعات وبالطبع ما دون ذلك!

كان التعليم العام للأسف مجالاً يعاني بقسوة وعمق أمراض الدولة العثمانية في شيخوختها وسنوات انحدارها، وكانت علل التعليم طاغية في بعض بلدان العالم العربي التي ظهرت فيها بوادر المدارس العصرية كالعراق وسورية، وسرت فيها مختلف أمراض الإدارة العثمانية المعروفة التي وصف نماذج منها الباحث المعروف محمد كرد علي (1876-1953) في كتابه "الإسلام والحضارة العربية"، فيقول: "من أدهش ما يُدَوّن في عهد الترك العثمانيين أن أحد وزراء المعارف المتأخرين كان يضع مناصب التدريس في المدارس الثانوية في المزاد، ويتولى المنصب المدرسي الذي يقبل بأدنى سعر ممكن، مهما بلغ من جهله في المادة التي أخذ على نفسه تدريسها بهذا الراتب الضئيل، وحدث أنهم وسّدوا دروس الدين إلى غير المسلمين في المدارس الثانوية، وكان من العادة في المدارس الوسطى بالولايات العربية أن يعهد إلى أبناء العرب الذين لا يحسنون التكلم والكتابة بالتركية بتدريس الآداب التركية وإلى الأتراك الذين لا يجيدون تأليف جملة واحدة بالعربية أن يدرسوا الصرف والنحو والمنطق والبيان العربي.

أما المدارس الابتدائية فمعلموها خرجوا على الأكثر من غمار الجهلاء، وليس غير بعض المدارس العالية في العاصمة كالمدارس الملكية والحربية والطب والهندسة في أواخر أيام الدولة، يتولى التدريس فيها علماء أجلاء من الترك والعرب والأرمن والروم والفرنسيين والألمان وغيرهم".

(طبعة القاهرة، 1959، ج1، ص 334).

ويقول ريدر فيشر عن التعليم في العراق إن عدد المدارس كان قليلا في البصرة، مثلاً في بواكير القرن العشرين لا تحصي الإحصائيات منها أكثر من عشر مدارس ابتدائية، كان يدير كلا منها معلم أو معلمان في سنجق البصرة، "وخلال الجزء الأكبر من العهد العثماني الأخير، لم يكن هناك سوى مدرستين ثانويتين من النوع المدني، ودار صغيرة للمعلمين، وقد وجدت مدارس دينية خاصة للمسلمين السنّة في كل من البصرة وأبي الخصيب، لكن كثيرا من هذه المدارس انهارت واختفت خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر".

(البصرة وحلم الجمهورية الخليجية، ترجمة سعيد الغانمي، 2008، ص72).

وكانت فرص التعليم في تلك المرحلة أواخر القرن التاسع عشر وبدايات العشرين للمسيحيين العرب أفضل في العراق ودول الشام، يقول "ساطع الحصري" المفكر القومي المعروف إن الدول الأوروبية أخذت خلال عهد الإصلاحات العثمانية "تتنافس في توسيع نفوذها في البلاد العثمانية عن طريق تأسيس مدارس تنشر لغتها وثقافتها. كانت المدارس الأجنبية تؤسس- بوجه خاص- في القرى المسيحية والمدن التي يكثر فيها المسيحيون ولاسيما في حلب والموصل وبيروت والقدس ولبنان".

ومن المفارقات الثقافية في تلك المرحلة فيما يضيف، الحصري: "أن تعليم الأدب العربي واللغة العربية وجد موئلا في المدارس الأجنبية والمدارس المسيحية الطائفية، فانتشر تعليم الأدب العربي بين المسيحيين أكثر من انتشاره بين المسلمين، لأن العرب المسلمين لم يؤسسوا مدارس خاصة بهم بل ظلوا يرسلون أولادهم إلى المدارس الحكومية- إذا أرادوا تعليمهم- ولغة التعليم في المدارس الحكومية كانت اللغة التركية".

وقد استمرت هذه الحالة بعد انتهاء "عهد التنظيمات"، أي مرحلة الإصلاحات العثمانية، وكذلك بدء عهد الدستور أيضاً، وصارت من أهم القضايا التي أشغلت بال الإصلاحيين، ويقول الحصري وهو من أبرز المفكرين القوميين (1880-1968) إن فكرة القومية العربية التي كانت تحاول تضييق الفجوة بين العرب والمسلمين والعرب المسيحيين كان عليها "أن تحول أنظار المسلمين عن الدولة العثمانية وأنظار المسيحيين عن الدول الأوروبية لكي تجمع كلمتهم حول العروبة".

"وظل المسلمون يعتبرون الدولة العثمانية دولتهم، ويستسلمون لحكمها لكونها دولة الخلافة الإسلامية، وظل المسيحيون يشعرون بأنها- أي الدولة العثمانية- غريبة عنهم لأنها تعتبرهم رعايا- لا مواطنين- ويتوجهون نحو الدول الأوروبية لأنها تحميهم في كثير من المناسبات حتى أنها تقدم لهم بعض المساعدات".

لم تكن الدولة العثمانية تساوي بين شعوبها أو سكان أقاليمها، ويقول الحصري- وهو من عائلة مسلمة كما هو معروف- إن الدولة العثمانية "كانت تعامل غير المسلمين معاملة تختلف عن معاملتها المسلمين من جميع الوجوه، مثلا كانت تسمي المسلمين تَبَعة، وغير المسلمين رعايا، وكانت تحتم على غير المسلمين لبس لباس خاص أو الاتشاح بزنار خاص- حزام- لتمييزهم عن المسلمين. وكان رجال الدولة العثمانية غالوا في بعض الأدوار في هذا السبيل، وفرضوا على هؤلاء حمل شارات خاصة عند دخولهم الحمام، تساعد على تمييزهم عن المسلمين بعد خلع ملابسهم المعتادة".

(ساطع الحصري، البلاد العربية والدولة العثمانية، 1957، ص76، 82- 83).

لم يكن التعليم النظامي العام وحده متخلفاً أو غائبا في العالم العربي في الحقبة العثمانية، بل حتى التعليم الديني نفسه، رغم قدم جذوره وتاريخ مؤسساته، بل لا يزال هذا التعليم في العالم الإسلامي غاية في السطحية والتخلف وتوارث المناهج والتضييق على حرية البحث ومنع التجديد، وبخاصة في كليات الشريعة والحوزات مقارنة بالجامعات المتخصصة بالدراسات اليهودية والمسيحية، بل حتى بالجامعات أو الكليات التي تدرس للطلبة في الغرب الإسلام كدين أو تاريخ أو ثقافة شعوب وبلدان. وما أكثر المسلمين في تلك الديار من دارسين ومدرسين، وكم من المشتكين والمتذمرين، وكم ممن يهاجمون "انحياز الغرب ضد المسلمين" و"الإسلاموفوبيا"، ولكن لا أحد منهم سعى حقا إلى تجديد وتغيير الدراسات الإسلامية في بلداننا رغم الحاجة الماسة إلى التحول الجذري وتعميق فهم المسلمين للأديان والثقافات الأخرى.

حاول بعض شيوخ الدين الإصلاح والتجديد، وظهرت حركات وشخصيات معروفة في هذا الميدان، وكان السبب في ظهورها كما تقول بعض المراجع "تحسس القائمين بها والداعمين للاتجاهات هذه من الانحلال الاجتماعي، وانتشار البدع والضلالات في الإسلام والابتعاد عن أصول العقيدة". من جانب آخر، يضيف د. علي المحافظة، "كان للاحتلال العسكري الغربي لبعض الأقطار العربية والغزو الثقافي الذي رافقه وعجز الدولة الإسلامية على رأسها الدول العثمانية عن مواجهة التحدي الخارجي والبون الشاسع بين التقدم العلمي والتفوق الاقتصادي في أوروبا وما كان عليه المسلمون من تأخر في العلوم وتخلف في الحياة الاقتصادية، أثره في نفوس المتنورين من علماء المسلمين"، بل أتيح لبعض هؤلاء العلماء، يقول د. المحافظة، "أن يتعلموا اللغات الأوروبية وأن يقيموا في أوروبا لفترات من الزمن تمكنوا خلالها من الاطلاع على المؤسسات السياسية والإدارية والاقتصادية فيها، ودراسة التيارات الفكرية المتعددة، واستيعاب آراء المفكرين البارزين وترجمة خيرة آثارهم الفكرية".

(الاتجاهات عند العرب في عصر النهضة، 1983، ص70).

كان جمال الدين الأفغاني أبرز هؤلاء، وآراؤه الإصلاحية معروفة، وهي باختصار العودة إلى الدين النقي، ووحدة الشعوب الإسلامية، وإزالة الفوارق بين الفرق الإسلامية، وتحرير العقول من الخرافات، وتحرير الفكر الديني من قيود التقليد، وفتح باب الاجتهاد والتوفيق بين العلم والإيمان، ذلك "أن لا خلاف بين ما جاء في القرآن والحقائق العلمية، أما إذا برز خلاف ما فذلك دلالة على عجز تفسير الآيات القرآنية، ويقترح حل هذا الإشكال باعتماد التأويل".

(المصدر نفسه ص 74).

كان المصلحون المسلمون في وضع صعب، فبلدانهم تعاني الفقر والاستبداد، والفجوة بين مجتمعاتهم ودول الغرب واسعة، والرغبة في الانفتاح على الغرب، والاقتباس من خبرته قوية، ولكن الدول الغربية كانت من جانب آخر في صراع عسكري وسياسي واستعماري مع العالم الإسلامي، إلى جانب الاختلاف الديني معه، فكانت دعوة بعض المسلمين للانفتاح على علوم الغرب وحضارته تفسدها الفوارق والمخاوف من كل لون، ومن هنا رفض الأفغاني تقليد الغرب واتخاذه نموذجا، بل شكك حتى في إخلاص ووطنية دعاة الانفتاح على الغرب، وكتب في مجلة "العروة الوثقى" التي كانت تصدر في باريس "أن المقلدين من كل أمة، المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس ومخازن الدسائس، ويصير أولئك المقلدون طلائع لجيوش الغالبين".

(المصدر نفسه ص76).

ورغم أنه دعا العلماء المسلمين "للاطلاع على التيارات الفكرية الحديثة ضرورة لابد منها، بقبول ما يتفق والشريعة الإسلامية" أكد الأفغاني في الوقت نفسه أن الطريق إلى التمدن الحقيقي هو الإصلاح الديني وتوحيد الفرق الإسلامية، أما من تصدى لتطوير التعليم الإسلامي والنهوض بالجامع الأزهر فكان رفيق درب الأفغاني الشيخ محمد عبده، وهي تغييرات وإصلاحات محدودة جوبهت بمعارضة واسعة ضد "إدخال العلوم الحديثة"!

back to top