جيل الألفية المغربي والثورة الثقافية الهادئة

نشر في 17-11-2018
آخر تحديث 17-11-2018 | 00:01
No Image Caption
يجد المراقبون السياسيون صعوبة في قياس كل تأثير الإنترنت على التغيرات السياسية، وهذه مسألة ظهرت في العالم العربي خلال الربيع العربي، فالثورة الرقمية جاءت بحلم الديمقراطية والحرية الشخصية إلى العالم العربي ولكنها بدلت أيضا خصائص أساسية في الثقافة العربية بالرغم من الجذب القوي الذي تمارسه التقاليد والديانات.

وجيل الألفية هو أول جيل ينمو ويترعرع على «الثورة الرقمية» والفسحة التي توفرها شبكة الإنترنت لممارسة النشاط السياسي والتمكن من نشر مثاليات العولمة والحرية. وتتمتع مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص بالقدرة على تحدي القواعد السابقة المترسخة، فقد انتبه العرب إلى الحركة التي بادر بها جيل الألفية الأميركي للتضامن مع الفلسطينيين ضد السطوة الإسرائيلية على غزة، وهي خطوة لم يسمع بها قط في تاريخ السياسة الأميركية. وفي العالم العربي، نجح جيل الألفية في تحدي الأنظمة الديكتاتورية خلال الربيع العربي بالرغم من رد الفعل السياسي العنيف واستحواذ رموز النظام– وتحديدا الأحزاب الإسلامية - على هذه الحركة. ومع أن التغيرات الثقافية التي أوجدتها وسائل التواصل الاجتماعي لم تلق الاهتمام نفسه، إلا أنها تغيرات تدوم فترة أطول.

بخلاف الربيع العربي الذي وضع عنه المراقبون الغربيون مئات الكتب والمقالات والأفلام الوثائقية، لم تحظ الثورة الثقافية الأهدأ التي أثارها الإنترنت باهتمام يذكر. والواقع أن هذه الثورة الثقافية تزدهر تحديدا بسبب قدرتها على البقاء بعيدة نسبيا عن أنظار المراقبين الخارجيين ورموز الأنظمة الحاكمة على حد سواء، أقله في الوقت الراهن.

ويعتبر المغرب حالة ذات أهمية خاصة في هذه الظاهرة، فبخلاف كثير من دول الشرق الأوسط، امتنعت الحكومة المغربية عن تصفية وتنقية استخدام الإنترنت. فجيل الألفية المغربي يستعمل الإنترنت عبر الحواسيب المكتبية والهواتف النقالة والأجهزة اللوحية، كما أن غالبية الأماكن العامة كالمقاهي والمطاعم تقدم خدمة إنترنت واي- فاي مجانية نزولا عند الطلب الكثيف عليها، حتى أن مدينة الجديدة تقدم خدمة إنترنت مجانية ضمن حدود البلدية.

والجدير بالذكر أن الروابط المتينة القائمة عبر الإنترنت بين الجالية المغربية في فرنسا وأبناء المغرب المقيمين فيه لعبت دورا خاصا في رسم معالم التغير الذي طرأ على المعايير والتوقعات. ويحرص الشباب المغربي على تطبيق النظام الليبرالي والديمقراطي الفرنسي في بلادهم بغية الاستفادة من نفس الامتيازات التي تمنحها الديمقراطية الغربية للمغتربين المغاربة وأبناء المهاجرين، فمبادئ الحرية الشخصية، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والتمثيل السياسي والمحاسبة -أي الديمقراطية الكاملة – جميعها تبدو متاحة على نحو مغر عبر الإنترنت.

تحدي المنظومة القائمة

لطالما خدمت وسائل الإعلام الحكومية مصالح المؤسسات السياسية والدينية، متذللة في تبجيلها للنظام الملكي المحافظ المطلق وفي إشادتها بالإسلام التقليدي المتشدد الذي يأبى التكيف مع واقع الزمن الحديث. وإذا بشباب المغرب الذي يشكل 40 في المئة من إجمالي السكان يسأم من امتناع هذا الإعلام بشكل شبه تام عن تناول المواضيع التي تهمه، فأوجد عالما موازيا على الإنترنت، عالما يرفض الإذعان للقواعد الاجتماعية والسياسية القائمة في المجتمع المغربي.

لكن دستور عام 2011، شأنه شأن كل الوثائق الدستورية السابقة، ينص بوضوح على وجوب احترام شخص الملك وتنزيهه عن كافة أشكال الانتقاد. وبذلك، تجد كل الأحزاب السياسية – اليسارية منها واليمينية – ملتزمة بهذا القانون فتحصر انتقاداتها بالمؤسسات الحكومية كالبرلمان، المفهوم عنها أنها تشكل وسيلة مهذبة وغير مباشرة للتشكيك في قرارات الحكم الصادرة عن الملك.

يلفت جيل الألفية إلى أن منظومة الحكم الملكي خلفت بوعدها بإرساء نظام ديمقراطي وانتقال السلطة تدريجيا منذ 2011. وفيما يواصل الشباب الالتزام بالحكم الملكي باعتباره رمزا للاستقرار بفعل شرعيته التاريخية والدينية، فإن جيل الألفية مستعد أيضا للانتقاد بشكل أكثر علنية المصالح المخلدة والفساد والمحسوبية المتفشية بين الأحزاب السياسية في المغرب.

المنظومة الاجتماعية

حرية المرأة: منذ إقرار ما يعرف بمدونة الأسرة المغربية عام 2004، نالت المرأة المغربية حريات أكثر من السابق. إذ بات بوسعها الزواج بدون إذن من الوصي على العائلة، ورفض اقتران زوجها بنساء أخريات، والتنعم بمساواة أكبر في الميراث.

بيد أن الإنترنت فتح المجال أيضا أمام ازدياد نسبة الاستغلال الجنسي، وقد بدأ السكان الأكبر سنا في التصدي لهذا التغير في القواعد والمعايير، ففي عام 2013، قام شاب وشابة من مدينة الناظور الشمالية المحافظة بتبادل القبل في العلن بعد خروجهما من المدرسة، وانتشر فيديو عناقهما على موقع يوتيوب، وجاءت ردود الفعل متضاربة ما بين مهلل مطالب بتعزيز الحرية الشخصية، وشخصيات دينية تطالب الدولة بمعاقبة الشاب الذي أفترض أنه عالق في اللاوعي تحت تأثير الإعلام الغربي.

ومع أن الدولة عمدت بالفعل إلى توقيف الثنائي، إلا أن هذا العمل أدى إلى نشوب حملة عالمية لإطلاق سراحهما وإلى إقامة «اعتصام تقبيل» أمام مقر البرلمان بالرباط فيما شكل تحديا للنزعة الدينية المحافظة، فما كان من الحكومة أمام هذه الضغوط إلا أن أفرجت عن الشاب والشابة وأسقطت التهم.

صياغة خطاب ثقافي بديل

منذ إحياء القومية الأمازيغية في شمال إفريقيا والناشطون الأمازيغ في المغرب ينادون برواية تاريخية مخالفة عن النظرة السائدة للتاريخ المغربي، إذ يعتبر هؤلاء أن الجيوش العربية غزت شمال إفريقيا خلال القرن السابع وسيطرت عليها بحد السيف وليس نتيجة اعتناق سكانها الإسلام سلميا في ما يسمى بالفتوحات.

والواقع أن هذه الفكرة تتعارض بشدة مع المفهوم العربي الأوسع بشأن نواح رئيسة معينة من الهوية المغربية. وقد ساعد الإنترنت في الدعوة إلى إقرار اللغة الأمازيغية (تامازيغت) لغة رسمية مكرسة رسميا في الدستور الصادر عام 2011. ولكن أكثر خطواتهم فظاظة كانت المناداة بالصداقة مع إسرائيل حيث قاموا بإنشاء جمعيات إسرائيلية أمازيغية مجادلين بأنه يوجد العديد من الأمازيغ اليهود الذين ساهموا بشكل ملحوظ في الثقافة وأن إسرائيل – على غرار الأمازيغ – هي ضحية النزعة العربية الشمولية. بيد أن الكثير من القوميين العرب المغاربة يجدون في هذه الحجج ما يقارب الخيانة للمغرب والإسلام ويعتبرون أن أصحابها يستحقون الاعتقال. ولكن الإنترنت سمح بنشر أفكار الثقافة المضادة هذه، وثمة جيل جديد من القوميين الأمازيغ يطور عبر منتديات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الرواية المضادة.

نتيجة الصدمة التي خلفها الفشل الظاهري للربيع العربي، غفل كثيرون عن التغيرات المتزايدة التي أحدثها الإنترنت في المجتمع المغربي، في وقت لا يزال رد رموز النظام مجهولا – وخصوصا تلك الشخصيات الدينية التي قد تختار ما يكيف تعاليم الإسلام مع القواعد الاجتماعية الجديدة لجيل الألفية أو مضاعفة مطالباتها بإرساء نظام اجتماعي محافظ تحت سيطرة الدولة. مع ذلك، وبصرف النظر عن المستقبل السياسي في المغرب والعالم العربي، فالثورة الثقافية موجودة. جيل الألفية المغربي يريد مستقبلا على هواه يلبي احتياجاته ولا يستوفي التطلعات التي تفرضها ثقافة ما. وبفضل الإنترنت، وجد هذا الجيل منصة للتعبير عن هذه الاحتياجات، والأرجح أنه سوف يواصل رسم العالم الحقيقي من حوله.

back to top