الحقيقة الكاذبة!

نشر في 08-11-2018
آخر تحديث 08-11-2018 | 00:01
 مسفر الدوسري أتساءل كثيرا عمَّا يشطرنا نصفين أكثر، ويجعل قلوبنا كالهباء المنثور في العتمة؛ أهي الحقيقة المُرَّة، أم الحقيقة التي نرفض تصديقها؟!

الحقيقتان موجعتان، وتجعلان المرء في لحظة صِدام قاسية مع ذاته، لكن أيهما أكثر إيلاما، وأيهما أكثر رحمة بنا، وأقل وطأة على أرواحنا؟! هل الحقيقة المُرَّة التي لا تنسى قلوبنا مذاقها ويعجز الزمن مهما حاول عن محو طعمها بكل ما أوتي من سكّر الحياة، أم تلك التي نضيع ملامحنا في طريق الهروب منها، فتتشظى وجوهنا على مرايا من تراب، فلا نعود نعرفها إلى ما شاء التيه؟!

الحقيقة المُرَّة درس مؤلم يفقدنا مصداقية القادم من الحقائق الأخرى في القادم من تجارب الحياة، وينزع ثقتنا بها، ويحوِّل كل حقيقة شوكة شك تنغرس في يقيننا وتمتد جذورها بعقولنا كما في قلوبنا، تهز إيماننا، تجعلنا الرعاة الرسميين للريبة والمخاوف.

ورغم ما قد يبدو لنا حقيقة واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار، لكننا سنظل مترددين في أن نخطو خطوة للأمام، مخافة أن نطأ جرحاً يشبه في ملامحه جرحاً تخضّب في دمائنا من قبل، ستبقى أقدامنا مكبَّلة بسلاسل من حديد الرعب، ومغلولة بأن "المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين"، وأن "سوء الظن من حُسن الفطن"، وستظل أحداقنا مفتوحة قدر استطاعتها في كل اتجاه خوف المباغتة، وسنقضي ما تبقى من العمر في محاولة للبقاء يقظين إلى أن تشيب أهدابنا قبل الأوان، ويجف ماء عيوننا، وتضيق فسحة الحياة بنا شيئا فشيئاً، حتى نموت اختناقاً أو نكاد. للحقيقة المُرَّة تبعات لا تقل قسوة عنها، تتشجر منها لتظلل حياتنا بظل الوحشة.

أما الحقيقة التي نرفض تصديقها، فلا تضيق لنا الحياة، لكنها عوضاً عن ذلك تقودنا إلى حياة من وَهْم كامل الدسم، وَهْم نظن أنه يمنحنا التصالح مع أمنياتنا ومطامعنا المشتهاة من الحياة، فنتصرف على أساس أن تلك الحقيقة سارية المفعول، ولم تنتهِ صلاحيتها بعد، تاركين سُمها يسري في عروقنا، ومفسحين المجال لخلاياها السرطانية تنتشر لـتأكل الأخضر واليابس من حياتنا الواقعية، فتضعنا هي بدورها في الحجر الصحي، لعدم أهليتنا إنسانيا وعاطفيا. نرتكب الأخطاء الفادحة بناءً على حقيقة مسمومة، ونوصف بغير الأسوياء والحمقى والمجانين وكل الصفات التي تحض على تجنب التعامل معنا بما يليق بإنسانيتنا. نعيش حياة لا علاقة لها بالحياة، نهرب من حقيقة قاسية على عقولنا، لوهم أشد قسوة على إنسانيتنا. نعيش على افتراض كمال ما لم يكتمل، وأنقاض نظن أنها معمورة لم تتهاوَ، ووحدة غير مليئة بسوانا.

وما زلت أتساءل عمَّا يقتلنا أكثر؛ حقيقة تسلب الحياة منا، أم حقيقة تسلبنا من الحياة؟!

back to top