بانتظار المنقذ الأعظم

نشر في 27-10-2018
آخر تحديث 27-10-2018 | 00:00
No Image Caption
سمع حارس المحميّة إنيل نهيق الحمير الهائل صباحاً، قبل شروق الشّمس، استيقظ برهة، ثم غفا ثانية بمثل لمح البصر. أيقظه النّهيق بعد قليل، كشوكة تخز فخذه، أغمض عينيه، لكنّ النّهيق علا أكثر من الأول وأبعد النّعاس. نهيق مصحوب بزئير الأسود، وعواء الذّئاب، وأصوات الضّباع، مختلطاً بصياح باقي الحيوانات.

لماذا؟ ما السّبب؟ لا بدّ أن شيئاً جدّ، أثار كلّ هذه الحيوانات، أهاجها. أغمض عينيه، لكنّ الأصوات اقتحمت عليه غرفته من جديد. الحيوانات لا تعرف المداومة على شيء من دون سبب، ولا بدّ أن تهدأ. ظنّ أنّه بعد بضع دقائق سيرجع إلى منامه اللذيذ. لكنّها أبعدته، استمرّت متداخلة ومتناغمة مع بعضها، منعت النّعاس من العودة. لكن قفْ، فكِّر. هناك شيء جديد وغريب، النّهيق الذي تسمعه ليس أصوات حمير طبيعيّة معهودة من قبل، هو نهيق مختلف، يبدو ذا نغمة، كنشيد أو أغنية، يرتفع وينخفض، كأنه صوتٌ ملحّن. وأهمّ من كل شيء أنّه عاد ملحّناً غير مرّة، أهذا معقول؟ رغم إغماض جفنيه نهض، رشق وجهه بكف ماء بارد، وأعدّ لنفسه كوباً من القهوة بالحليب. خرج من الغرفة، واتّجه نحو باب المحميّة. وصلته أشعة الشّمس الرّقيقة، قادمة من الشّرق، فأحسّ ببهجة لا يعرف سببها، ربما لأنّه اعتاد مثل تلك المشاعر منذ أن كان صغيراً.

شمّ حال خروجه رائحة الأرض المميّزة بعد المطر. لم يرَ مطراً لأن الأرض امتّصت الماء. ما أطول يوم البارحة! مزعجاً كان. أتعبه الطّريق غير المعبّد لإيصال السّيّد ديفز إلى مطار بسمونا، ثم الرّجوع منه. قبل أنْ يغادر المحميّة طلب منه تغيير مكان صغار دب أسمر، وُلدت خدائج، إلى آخر أوسع يسهل تنظيفه، أتعبه ذلك فاضطر إلى زرق الأم بحقنة تخدّرها، ونقلها على سيارة البيك أب إلى خارج البناية، ثم رجع. يتطلّب إعداد التّغييرات بضع ساعات، اشتركت معه بها الآنسة كريستين. لولاها، ولولا مزاحها الصّريح والوقح، ونكاتها المكشوفة، التي يحبّها، ويلذّ له سماعها، ويبتهج عندما ترويها وتقهقه، لولا ذلك لما استطاع إنجاز عمله في يومين. الآن وهو وحده يعرف قيمة الصّحبة ويقدرها حقّ قدرها. شم رائحة الأرض الطّيبة مرّة أخرى، فابتسم رغماً عنه. ثم نظر إلى أشعة الشّمس الذّهب، واستنشق الهواء صافياً بعمق، اقتحمت ذاكرته منطقة المطار، والطّريق إليه، وضواحي بسمونيا الجديدة. كيف أحسّ بتلوّث الهواء يكاد يقف فوق حنجرته، ويجرحها. هنا يدغدغه الهواء نقيّاً، صافياً، طبيعياً، خالياً من الشوائب، وتلوث يمنع النَفَس، يقف كفحمة في الحنجرة، يحس بها عندما يبلغ ريقه. قدّر أنّ حرارة الشّمس، ستشتدّ بعد قليل، لكنّها لن تضايقه، فالموسم موسم النّسيم شرقيّاً معبّقاً برطوبة، معتدل الحرارة، يحمل رائحة البحر اللذيذة.

الآن دهمت ثانية وجوده أصوات متشابكة، كالتي أيقظته ليلاً، تساءل في نفسه أهي من نفس الحيوانات؟ ما أغرب الظّاهرة! لم تستمرّ أصوات معيّنة كهذه ساعات طوالاً قطّ! لا بدّ من سبب لاستمرارها، لماذا تحدث؟ ولماذا لم تنقطع؟ ماذا أصاب مخلوقات المحميّة اليوم؟ لم يكن مسؤولاً عن تفقّد الحيوانات. مسؤوليته تنتهي بأسوار المنشآت الجاهزة التي جُلبت قبل عشر سنين، لتصبح مقراً لإدارة المحميّة. هو أقدم موظف في المحميّة، بدأ عمله قبل سبعَ عشرةَ سنة. بعد السّيّد ديفز بأسبوع واحد. كانت أربع خيم، ثم جاؤوا بمقصورة واحدة ذات غرفتين، ثم ثانية، وأصبحت ثلاث مقطورات هائلة. نظّمت على شكل مربع سقط ضلعه الرّابع. جاؤوا بها يسحبونها بوساطة شاحنات كبيرة. رفعوا عجلاتها، وضعوها على مكّعبات من الإسمنت، جهّزوا بإحكام كلّ باب بدرج معدّ سلفاً. أصبح بناءً متكاملاً، معجزة نُصبت أمام عينيه على الأرض. كان يسأل أصدقاءه في المدينة عندما يراهم: «أتصدّقون أن يقام بناء من عشرات الغرف في أقلّ من ساعتين؟ يضحك. يتّهمونه جادّين، بالضّحك عليهم.

ثم زرعت أشجار الأرْز الإفريقي حولها، زهور متنوعة، كلّ في موسمها حول الأشجار وبينها، في جميع الفراغات. بعدئذ جاؤوا بمتطلّبات المختبر، وبراداته، وثلاجاته، وميكروسكوباته، وضعوا كلّ شيء تحت الأشجار، ثم اشترك الجميع بنقلها، وتنظيمها في الدّاخل، مع الكراسي، والمناضد. ما أسرع ما وثق به الجميع، لم يعد يشعر بأنّه خارج مجموعتهم، قدّروا إخلاصه، مثابرته، حبّه لعمله. كان حارساً، ثم أصبح بسرعة صديقاً، زميلاً، رفيقاً. أتقن مهاراتهم كلّها، رفعوا راتبه كثيراً، كأيّ ممرض حيوانات محترف. طيلة مدة خدمته كلّها، لم يغب يوماً واحداً، إلاّ بعلم المسؤولين، وحين تخلو المحميّة من الإدارة، والأطباء، والزّوار، يكون هو القائم بأعمال الجميع، بواسطة الاتّصال معهم، بوساطة الهاتف أوّل الأمر، ثم بالفاكس بعدئذ، والآن بالبريد الإلكتروني، وحينما أشغل الهاتف الذّكيّ أوقات النّاس كلّهم، بات هو بدالة المحميّة المختصّة الكبرى.

السّيّد ديفز رئيس المحميّة يردّد دائماً: إنيل أهمّ مني هنا. يعرف معظم ما يعرف الجميع، وأنا أعرف بعض الأشياء عن الجميع. يعرف عادات الحيوانات جميعها، ربما أكثر من أيّ شخص آخر حتى الأطباء البيطريين، لكنّه أخذ يفكّر في الزّواج بجدّ. بلغ خمساً وثلاثين سنة، واختار أهله له عروساً فاتنة، لا تتجاوز العشرين. كانت من قبيلة أخرى، تمت بصلة إلى قبيلتهم، لكنها تنافسها. ما رفع من قيمة الفتاة ليس جمالها أدبها وخفرها فحسب بل غناها، فهي وحيدة أبويها، وستذهب ثروة عائلتها كلّها إليها في المستقبل. الزّواج أفرحه وأحزنه معاً. إن تزوجّها فعليه الاستقالة من عمل يحبّه، أجاده، انسجم معه طيلة سنين. وإن رفض الزّواج سيندم، لأنّه وبرغم كونه لم يرَها إلاّ مرّتين، لكنّه أحسّ بحبّ حقيقيّ لها، مواطنوه في هذا السّن أجداد. لو تزوّج في السّنّ المبكّرة التي اعتاد شعبه الزّواج فيها، كما تبغي عائلته، لكان له بضعة أحفاد. قضى عمره كلّه يحلم بالعيش في أوربا، ثم يئس من تحقيق الحلم. شاهد أوربا أمامه، فتلاشى الحلم من خيالاته تدريجيّاً، ولم يعد يفكّر فيه حين رأى آيشا، واقتنع بالزّواج بها.

رشيقة، ريّانة الصّدر، حلوة التّقاطيع إلى أقصى حدّ، لا بل لم يرَ أجمل منها، بشرة سمراء صافية، قرّر باقتناع إلاّ يفقد مثل هذا الجمال الفاتن، ثم تولّد في صدره حبّها، فلم يعد يهتمّ بثروتها، طفق يحلم بها، ويتوق لرؤيتها، وضمها بين ذراعيه، ويعدّ الأيام التي تفصله عن رأس السّنة، الذي يصادف اليوبيل الذهب لإنشاء المحميّة. أهله وذووها يريدون أن يقدّم استقالته، ويتمّ مراسم الزّواج حالاً، لكنّه استطاع إقناعهم بالانتظار إلى تلك المناسبة. حضّر ورقة الاستقالة، وحينما طلبه مستر ديفز، أخذها معه، ووضعها على منضدته، كان يتكلّم بالهاتف، فجلس مقابلاً له، نظر إليه. لا يدري لماذا عادت إليه ذكرى أوّل يوم التقيا فيه، المستر ديفز في مثل عمره تقريباً، لكنّه أبيض، شعره أحمر لامع، وهو أوّل وآخر إنسان يراه إنيل بلحية حمراء صغيرة جميلة جداً، مع شعر رأس خفيف أحمر أيضاً، ولو لم يكن قد رأى صدره كثّ الشّعر، لما صدّق أنّ لونه طبيعيّ، بل يستعمل صبغاً أحمر خاصاً للشّعر. طالما خلب لبه هذا اللون الجميل يحيط بالوجه، لكنّه الآن لحظ أنّ عينيه حمراوين أيضاً، لماذا؟ أخبره السّيّد ديفز، أنّه سيسافر إلى أمستردام اليوم بعد ساعتين، لأنّ زوجته أُدخلت إلى المستشفى قبل قليل. ولما كان يعلم أنّ جميع العاملين سيذهبون ليلاً، معاً إلى بسمونا، لقضاء ليلة اليوبيل الذّهب، والاحتفال في أكبر نادٍ للأجانب، فقد وطن نفسه وهو حزين جدّاً لاضطراره إلى البقاء مع كريستين وحدها.

لم يكن يريد البقاء قربها، فهي متطلّبة، ملحاحة، تدفعه دائماً أن يشاركها الشّرب، وحينما يكتفي بكأس من الـ «شراب» الأحمر، تلحّ عليه أن يشرب ثانية، وثالثة، حتى يفقدان وعيهما، وتخيّل نفسه معها وحدهما، كيف ستلّح أن يشاركها نزواتها، لا شكّ أنّها ستتعرّى، ستطلب منه أن يرقص معها عاريين. فكّر أن يضع لها منوّماً في الشّراب، ويتركها تغطّ في نومها إلى الصّباح، ويريح نفسه. لكنّها بعد قليل استدعته، قالت له إنّها غيّرت رأيها، ستشارك المجموعة سهرهم في بسمونا.

غادر السّيّد ديفز المحميّة ظهراً وفي الخامسة مساءً غادر بقية المشرفين على المحميّة، وهذا يعني أنّ المسؤوليّة كلّها بما فيها من اتصالات وإشراف ستقع على كاهله حتى ينهوا احتفالهم بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين كعادتهم. لم تسعه الفرحة، وجد نفسه يردّد أغنية شعبيّة وهو يكاد يرقص، ثم قضى الوقت بعد مغادرة أصدقائه يشاهد برامج محليّة، حتى أغفى. لم يتنبّه إلى أيّ حركة لهم في المحميّة، ولم يوقظه أيّ منهم. بدل ذلك أيقظته فجراً أصوات الحيوانات، لا بدّ أنّهم جاؤوا في ساعة متأخّرة ليلة البارحة، دعهم ينامون، عمل المحميّة متعب، عمل دائم لا يفتر. لن يستيقظوا قبل العاشرة، ما زال هناك وقت. يتوقّع أن يكلّمه السّيّد ديفز، أو يكلّم موظّفاً ما من المحميّة، متفقّداً أمورها. كان من المفترض أن يصل أمستردام قبل ستّ ساعات. هذا يعني أنّه الآن بالمستشفى. لماذا تأخّر؟ لا يلومه! ستة أشهر لم يجد فيها الوقت لزيارة أهله. سيطلعه بالتّأكيد على أخبار زوجته. ترى ما حالها؟ أوَلدت أم لا؟ أنقلوها إلى المستشفى؟ أكانت الولادة سهلة أم معقّدة؟ أحياناً تصل المرأة إلى حافة الوفاة. ظلّ انتباهه متّجهاً إلى الهاتف، سيرن الآن، بعد لحظة، بعد كم؟ لكن لا. هو يعلم أنّ الوقت الآن مبكّر. سيتّصل بالتّأكيد في العاشرة أو بعدها. توقيت بسمونا يقارب توقيت أمستردام.

احتدمت أصوات الوحوش والحيوانات مرّة أخرى، لكنّها جاءت الآن أخفت مما كانت في الفجر. أراد أن يرى ما سبب ضجة الحيوانات، لم يكن ذلك من صلب واجبه، لكنّه أراد أن يعرف السّبب، خيّل إليه أنّه لن يذهب مسافة طويلة، سيعرف السّبب خلال بضع دقائق. فتح باب السّياج الحديد السميك. اخترقت أسماعه أصوات الحيوانات مثارة مرّة أخرى، سيعرف السّبب بعد قليل. قطعت سيارة «البيك أب» مسافة نصف كيلومتر. طريق غير معبّد. ما هذا؟ لاحت جثة حيوان على بعد ثلاثمئة متر من البحيرة، إلى اليسار، وسط الأرض المعشوشبة، جسد أصفر. لا يمكن أن يكون لأسد. إذاً ماذا؟ نعم أسد. تأكّد حين اقترب منه. أسد مطروح على جانبه الأيمن. يبدو من الطريق ظهره فقط. رأسه وسط دائرة من دم ما زال عبيطاً. أعدّ بندقيّته، الصّيد ممنوع، لكنّه لم يتوقّف. المغامرون كثيرون. نزل، تأكّد ألاّ وجود لخطر يهدّده، اقترب من الجثّة. تأكّد من عدم حركة الأسد. بدأ يعاين جسده ليرى جراحه، لم يستطع أن يرى شيئاً. الذّباب يتراكم بكثافة على الجرح، يغطيه بطبقة سوداء كثيفة، يتراكم شيئاً فوق شيء، أصبح بارتفاع نحو إنش، حرّك كفّه فوق الذّباب، لم يتزحزح. دفعه بسبطانة البندقيّة، ابتعد الذباب الذي دفعته فوهة السّبطانة، ثم رجع حالاً، التصقت العشرات بحديد السّبطانة.

back to top