قبائل الشام

نشر في 25-10-2018
آخر تحديث 25-10-2018 | 00:10
الباحثة البريطانية «داون تشاتي» الأستاذة الفخرية بجامعة أكسفورد البريطانية تؤكد أن التمدد الكبير للعشائر البدوية نحو بادية شمال الجزيرة العربية وساحل البحر المتوسط، بدأ عقب الغزو المغولي الذي دمر عملياً سلطة الحكومة المركزية في القرن الرابع عشر.
 خليل علي حيدر نعرف الكثير ونسمع أكثر في وسائل الإعلام عن القبائل والعشائر في المنطقة الخليجية والعراق، ولكن ماذا عن سورية وحجم "الظاهرة القبلية" والعشائرية فيها؟

الباحثة البريطانية "داون تشاتي" (Dawn Chatty) الأستاذة الفخرية بجامعة أكسفورد البريطانية تقول إن التمدد الكبير للعشائر البدوية نحو بادية شمال الجزيرة العربية وساحل البحر المتوسط، بدأ عقب الغزو المغولي الذي دمر عملياً سلطة الحكومة المركزية في القرن الرابع عشر. وعندما غزا العثمانيون المنطقة تراجع عدد من العشائر البدوية المربية للإبل وذات المكانة المتميزة، المنتشرة على مسافات كبيرة، إلى عمق الهضبة العربية، وبذلك لم تبق سوى العشائر المربية للأغنام قرب حدود المناطق الزراعية.

وفي منتصف القرن السابع عشر، خففت الإمبراطوية العثمانية كثيراً من وجودها العسكري على حدود البادية بغية دعم حربها ضد النمسا، فأخذت العشائر المربية للإبل القابعة في عمق شمال الجزيرة العربية تتجه شمالا لملء الفراغ الناتج، واستمر هذا التمدد حتى أواخر القرن التاسع عشر، "وخلال هذين القرنين، عملت التحالفات العشائرية بين "عنزة" و"شمّر" على ترسيخ هاتين العشيرتين الأصيلتين في البادية والجزيرة السورية، ونسجت علاقات زبائنية- دفع الجزية (الخُوة) أو الغزو- مع العشائر غير الأصيلة والمستوطنات الزراعية في "المعمورة" التي تمثل الحدود بين المناطق الزراعية ومناطق الرعي".

وتضيف الباحثة أن العشائر التي ترعى الأغنام أقدمت على إلحاق نفسها بالحماة العثمانيين، ودفعت الضرائب لتحمي مصالحها العامة في التجارة، ولاحقاً في الزراعة، أما العشائر الأكبر، فرفضت مبايعة السلطان العثماني ودفع الضرائب، واعتبرت نفسها حرة.

(دورية "عمران" - قطر- شتاء 2016 ص84).

رأت الدولة التي كانت تحكم البلاد من المدينة ومحيطها في العشائر حلفاء محتملين في الحفاظ على أمن التنقل بين المراكز الحضرية، وكانت النتيجة، تقول الباحثة، أن "سيطرت تلك العشائر على مناطق واسعة من البادية كانت خطوط الاتصالات العسكرية العثمانية فيها مهمة. وبحلول منتصف القرن التاسع عشر أوكل الباب العالي- أي الدولة العثمانية- للعشائر الأصيلة، ولا سيما تحالفات "عنِزَة" و"شمّر" مهمة ضبط هذه المناطق في مقابل تلقيها مدفوعات وهدايا ومؤناً ومواد غذائية من الدولة. ووفر التحكم الأمني الدائم للعشائر البدوية الفرصة والحق في فرض ضرائب على حركة المرور داخل المناطق التي سيطرت عليها".

وتتناول الباحثة ظروف توطين غير العرب في "المعمورة" أي المناطق الزراعية شبه الحضرية في مناطق الشام فتقول: "بسطت تحالفات عنزة وشمّر سيطرتها على المناطق الهامشية والحدود، وبالتالي على التجارة بين المناطق الحضرية المهمة وعلى قوافل الحج بين دمشق وبغداد ومكة، ولكن الغزوات والحروب التي جرت بين العشائر خلال سبعينيات القرن التاسع عشر للسيطرة على منابع المياه والمراعي طفقت تزعزع أمن "المعمورة" ومدن حمص وحماة وحلب على نحو خطر، واضطرت الدولة العثمانية إلى إرسال قوات لتهدئة العشائر المتحاربة، وشرع العثمانيون في الوقت نفسه في توطين وتسليح المسلمين الفارين من ديارهم جراء الحروب العثمانية- الروسية على امتداد هذه المنطقة الحدودية، فبين سنتي 1870 و1900، دُعي مئات الآلاف من الشركس والأبخاز والشيشان إلى الاستقرار على امتداد "المعمورة"، في خط يمتد من رأس العين على نهر الفرات إلى عمَّان، وفي المنطقة المحيطة بحمص وحماة والسلمية، أحاطت مستوطنات شركسية عسكرية جديدة ببدو الموالي والحديديين والفضل، وشجعت مجتمعات زراعية أخرى على العودة والعمل في مجال الزراعة، وفي هضبة الجولان شكل هؤلاء المستوطنون إلى جانب الدروز الذين فروا من القتال في جبل لبنان قوة قتالية فعالة لتحطيم سلطة عشائر البدو". (ص 84-85).

لم تعزل القيادة العشائرية نفسها عن المراكز الحضرية للسلطة، وكذلك عن مؤيدي السلطة في البادية، ومع اقتراب نهاية القرن التاسع عشر أنشأ العثمانيون مدرسة داخلية خاصة في إسطنبول لأبناء زعماء العشائر في جميع أنحاء الإمبراطورية. وفي مطلع القرن العشرين، تضيف الباحثة، درست غالبية زعماء العشائر البدوية هناك، وخدموا في الجيش العثماني قبل أن ينصب السلطان العثماني هؤلاء شيوخا لقبائلهم. وكان لهم وجودهم في المدن الرئيسة، حيث، تقول الباحثة، "غالبا ما أشار كتاب الأسفار الغربيون إلى ثقافتهم".

وامتد دور هؤلاء الزعماء إلى ما بعد سقوط الدولة العثمانية، ففي السنوات الأخيرة من عهدها، كرس كثير من زعماء البدو وعشائرهم جهودهم لدعم جهود الشريف حسين في الحجاز لإنشاء دولة عربية مستقلة. ونشط بشكل خاص ثلاثة زعماء لعشائر قريبة من دمشق- الرولة والفضل والحسنة- في دعم الدولة العربية، أي المملكة السورية (1919-1920). وأيدت عشيرة الفضل تحركات الأمير فيصل للاستقلال عن الحكم العثماني، كما تعاون شيخ الرولة "نوري الشعلان" في البداية مع السلطات العثمانية، وقيل إنه كان يتلقى من أحمد جمال باشا أجراً شهرياً قدره 20 ألف ليرة ذهبية".

وتضيف الباحثة أنه "جرى نفيه إلى إسطنبول عقب صدامه مع مسؤول عثماني، ثم عاد إلى دمشق سنة 1916 وغيّر موقفه، إذ قبل عرض "توماس إدوارد لورنس" (لورنس العرب) بدعم مطالب الأمير فيصل في سورية، وفي سنة 1918 دخل "نوري الشعلان" وشيخ عشيرة الحسنة "طراد ملحم" دمشق مع قوات الأمير فيصل لإنشاء المملكة السورية. وعلى امتداد الفرات سيطرت قوات عشيرة "الفدعان" على المنطقة الواقعة بين دير الزور والرقة لمصلحة الأمير فيصل ضد القوات الفرنسية الغازية".

وتقول الباحثة "تشاتي": "هناك من يزعم أن الرقة لا دمشق كانت العاصمة الروحية إن لم تكن العاصمة المادية للقوات العربية البدوية بين سنتي 1920-1921 في الكفاح من أجل إقامة المملكة السورية بقيادة الأمير فيصل".

غيرت اتفاقية "سايكس بيكو" أوضاع المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كما هو معروف، وتقول الباحثة: "رسم سايكس خطاً من عكا إلى كركوك لحماية المصالح النفطية المستقبلية، وغدت أراضي البادية المفتوحة ممراً بريطانياً بين شرق الأردن والعراق، يفصل البادية السورية عن نصفها الطبيعي الجنوبي في السعودية. وبجرة قلم أصبحت "عنزة" و"شمر" المنتشرتان على مسافة كبيرة تمتدان على أكثر من دولة".

وهكذا وجدت قبائل وعشائر المنطقة نفسها إزاء واقع سياسي جديد.. كما سنرى!

التحالفات العشائرية بين "عنزة" و"شمّر" عملت على ترسيخ هاتين العشيرتين الأصيلتين في البادية والجزيرة السورية

مع اقتراب نهاية القرن 91 أنشأ العثمانيون مدرسة داخلية خاصة في إسطنبول لأبناء زعماء العشائر في جميع أنحاء الإمبراطورية
back to top