عباس الحداد: خالد سعود الزيد... لم تزل سراجاً منيراً

في ذكرى وفاته الـ17 يقدم رسالة إلى المعلِّم

نشر في 11-10-2018
آخر تحديث 11-10-2018 | 00:00
يقدم د. عباس يوسف الحداد رسالة إلى المعلِّم خالد سعود الزيد، في ذكرى وفاته السابعة عشرة، مستذكراً مناقبة ومواقفه النبيلة، ويرى أن كلماته كانت ولم تزل سراجاً منيراً وزيتاً يمنحنه طاقة نحو المضي قدماً في طريق موحش وطويل، فإن كانت بدايته طُوى، فإن نهايته لا تُرى، مشيراً إلى أن الراحل اتسم بالجد والاجتهاد والمثابرة لبلوغ الهدف، متسلحاً بعزيمة الكبار وجلد الأخيار.

ويقول الحداد: «رحم الله شيخي ومعلمي وأستاذي خالد، فلم يزل يعلمني ما لم أكن أعلم ويفتح لي بابا من العلم موصدا.

وفي السياق ذاته، يقول د. علي عاشور: كان معلمي خالد سعود الزيد، عطراً يفوح بيننا، وذكراً لا يتوقف، كان يُمسك بقارورة الطِّيب ويطيِّبنا بها عندما ندخل عليه، فنشم رائحة الطيب التي تجدد فينا عهداً بيننا، وتثبت في قلوبنا تلك المحبة الباقية له عبر السنين.

وبعد سبعة عشر عاماً من رحيله، تظل لغته وحديثه وكلماته وعلمه «عطرا يطيل قامةَ الهواء».

يقول د. عباس يوسف الحداد في رسالته:" شيخي معلمي سيدي خالد سعود الزيد.. سلامٌ من الله عليك ورحمة ومغفرة، لم تزل الكتابةُ عنك في مثل هذا اليوم من كل عام ليست عادة وإنما هي ولادة لمعان جديدة ومفاهيم عميقة زرعتها فينا يوم كنت بيننا بشراً سويا، صادق اللهجة، حسن الطوية، تترفع عن الدنية، وتقبل على البرية لأنهم وجه الحقيقة في الخليقة "الحمد لله الذي تجلى لخلقه بخلقه"، و"من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، فلا تصدق أن هناك إنساناً كاذباً، الكل لديك حين يحدثك صادق أمين فيما يقول، لا تفترض التلون والتأول في القول، لأنك واضح في معاملتك مستقيم في تعاملك، عندما تحب تكون بين واديك والقرى قائماً تنظر لمن تحب بعين قلبك وبنور روحك، وحين تكتشف الحقيقة المرة وتعلم أن من الخليقة من يكذب المرة تلو المرة، تطوي بكشحك عنه موليا وجهك شطر الحقيقة، تناجيها وتستهديها أن تريك قبلتك لتشهد رسول الله فيها قائماً في المحراب وحده لا شريك له في عبادته، ولا مثيل له في حسن طاعته، سجد للحقِّ فطرة، ونطق بالصدق مولدا، وبات أمينا على حفظ الأمانة؛ أمانة الحياةِ والفطرة والصدق في الوجود.

لقد كان محمد صلوات الله وسلامه عليه نوراً يمشي بين الناس فيضيء قلوبهم، وسراجاً منيراً يضيء طريقهم، ويكشف لهم دواخلهم ليطهرهم ويزكيهم ويُعيد تخلقهم بأخلاق الله خلقاً بعد خلق في تخلق لا مثيل له، فيظهر منهم العلي الرفيع في فضاء حضرته متعلماً متمسكاً بزهراء فطرته، قائماً في بيت بنوته لا يبغي عن ذلك حولا.

سيدي خالد

قلتَ يوماً: إن كلّ صلاة وسلام في الوجود هي من محمد وإليه. فهو المتفضل علينا لنصلي عليه ونسلم، هبط الأرض صلى الله عليه وآله وسلم ومعه آدمه الذي كان آدم خليقة في الماضي ويهبط اليوم معه ليكون آدم حقيقة، ليلد حقائق على الأرض لا خلائق.

فآدم – عليه السلام - حينما أخطأ خطيئته الأولى استغفر ربه فتاب عليه وأهداه كلمات منه، كلمات تامات تجدد من خلالها، والصالحون والسالكون والمستغفرون في الأسحار هم مظهر هذا التجديد والثوب الآدمي لهذه الآدمية في حقيقتها لا في خليقتها. وختمت قولك بأن كلا منا يستطيع أن يكون مقاما محموداً لمحمده الذي هو فيه.

"واعلموا أن فيكم رسول الله"

سيدي ومعلمي وشيخي

حين جئتك يوما وقد وقعت على معنى روحي أو فهمت شيئاً من سلوك القوم لألقيه عليك تبسمت في وجهي وقلت لي: "لا تذيعه عليّ، اجعله في صدرك ولا تبوح به"... فصمتُ متأدبا في حضرتك ونفسي تقول لي: لماذا يقول لك ذلك؟ ومع الأيام أدركتُ أنك كنتَ تعلمني معنى جليلاً، وترشدني لحكمة عطائية، إذ يقول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: "ادفن نفسك في أرض الخمول، فما نبتٌ مما لم يدفن لم يتم نتاجه". قال ابن عجيبة الحسني في شرح هذه الحكمة: "استر نفسك أيها المريد وادفنها في أرض الخمول حتى تستأنس به وتستحليه... فإذا دفنتها في أرض الخمول وامتدت عروقها فيه. فحينئذ تجني ثمرتها ويتم لك نتاجها".

كنت تريد أن تقول لي إن هذه المعاني واللمع هي بذور ادفنها في أرض وجودك وارعها حتى تصبح شجرة تؤتي ثمارها.

شيخي ومعلمي

كلماتك كانت ولم تزل سراجاً منيراً وزيتاً يمنحني طاقة نحو المضي قدماً في طريق موحش وطويل، فإن كانت بدايته طُوى، فإن نهايته لا تُرى، فالطريق إلى الله هو بداية الطريق في الله.

وحدثتني يوماً عن تجربتك في البحث عن الحقيقة فقلت: منذ أن رأيتُ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في منامي وأنا في الثامنة من عمري، وألقيت عليه القصيدة التي نسيتها عند يقظتي وأبدى إعجابه بالشطر الأخير منها وأنا لم أزل أبحث عن الحقيقة المطلقة، عن سرّ وجودي، وسرّ هذا الكون:

خالك العاشقون مرمى منالٍ فإذا البعدُ مثله في التداني

فطفت في المذاهب والملل والنحل أبحث عن هذه الحقيقة علني أجدها في بطون الكتب أو أشهدها في تعاليم تلك المذاهب من إسماعيلية وزيدية وبهائية وإمامية، فكانت الشمس تشرق في نفسي وتغيب... فأدركت أن طريق الحقّ لا يأفل، وأن الله يرشد الباحثين عن حقيقته في نفوسهم، وفي واديهم وقراهم:

جميعـــي تلفت نحـــو واديك والقــرى

عجبٌ أمر ناقتي قل لها ما الذي جرى؟

وما ناقتي إلا قيام وجودي في عالم شهودي... فمن مسنون تكويني ومن قيامي الطيني تطالعني سماوات تنادي: أيها المسحور بالطين

تأمل سِرّ تكويني

عرفتُ ولم أكن أدري الذي قد كان يحدوني

يعلمني ويغذوني

يضيء كأنه شمسُ

وطوراً إنه قمرُ

ويبهرني شعاعٌ منه في ذاتي يلامسني

فأحسب أنه القدرُ..

كنتُ أزدادُ يقينا منه بأنني سأصل ذلك الوادي المقدس، وستلفحني ناره المقدسة لتوقد ناري وتضيء داري وتحرق أوزاري، لترشدني إلى عالم الرشاد:

عرفتُك لستُ أّتَّهِمُ

فما في باطني إلا (أنا) وَهُمْ

(أناي) وإن هُمُ نكروا

فما ذاقوا الذي قد ذقتُ ما نظروا

أرى المرئيَّ فيَّ أنا

عجبتُ عالمي... أأنا

جماعُ عوالمٍ؟ أأنا

كنتُ على يقين منه يكفيني، يبدد وحشة الأيام والسنين ويفتح لي أفقاً لا تبصره العيون التي في الرؤوس وإنما تدركه العيون التي كمنت في القلوب.

وفي السابع والعشرين من شهر رمضان 1389هـ الموافق 6 ديسمبر 1969 شهدت ليلة قدري... حين حضرت أول جلسة روحية واستمعت إلى حديث عن مدى صحة الصلة القائمة بين عالم الروح وعالم الإنسان على هذه الأرض... وأن المناسك الدينية التي اكتملت بالدين الإسلامي على هذه الأرض وضعت لتصوغ من أثوابنا البشرية وما فيها من نفس على حال مستقيم يُهيئها ويعدها للاستقبال الروحي.

إن المناسك التي تقوم عليها الأديان ليست إلا نقطة انطلاق لنا معشر البشر، لتفك من أسر بشريتنا على هذه الأرض وتنطلق مع العالم الآخر، وتعمل في الحدود الواسعة لا في الحدود المقيدة.

إن الدين الإسلامي جاء للعالم كله لينتشله من عالم الحيوان إلى مرتبة الإنسان في الخليقة. إن البشر اليوم على هذه الأرض يتعاملون مع بعضهم بعضاً بحيوانهم لا بإنسانهم، لأن انتقال المرتبة من الحيوان إلى الإنسان تتطلب منا أن نكون للمناسك على دراية وفهم كبير فيها.

هل تريدون سمواً؟ هل تريدون رقياً في عالم الأرض وفي عالم السماء؟ ما أجمل أن يقاتل الإنسان في سبيل الحصول على معنى الله فيه.

إننا ننظر إلى الله بعيداً عنا. ونطلبه بعيداً عنا ونظرتنا هذه تبعدنا عنه وهو القريب منا دائماً.

لئن تحولت القلوب حقاً إلى معاني الله، وأعدت من أثوابها بيتاً لرسوله يقومها لَتجِدُنَّ الله قائماً في رسول الله فيها. وما أجمل هذا اللقاء.

كل منا وجه للرسول. وجه لمعناه. وما أروع هذا التلاقي وما أروع هذا المعنى. وهذا هو التوحيد.

كان هذا الحديث المتدفق من عالم الروح جذوة البداية، فيه وجدت ضالتي ومنه عرفت طريقي، وعلمت أن الحقيقة لا تؤخذ من الطروس وإنما تمنح بفهم الطقوس.

رحم الله شيخي ومعلمي وأستاذي خالد فلم يزل يعلمني ما لم أكن أعلم ويفتح لي بابا من العلم موصدا.

"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".

الكتابةُ عنك ولادة لمعانٍ جديدة ومفاهيم عميقة
back to top