الزعتر الأخير

نشر في 06-10-2018
آخر تحديث 06-10-2018 | 00:00
No Image Caption
تقترب عقارب الساعة من لحظة الالتقاء، ويدخل قلبي في معادلة الأزمة، فيخفق بدقّات غير منتظمة. ما يقلقني أنّ الهواء في صدري ثقيل وقليل وغير كاف لأتنفس؛ الجو أصبح خانقاً والشارع لا يتسع لنسمة هواء من شدة ازدحام الأجساد والوجوه التي تمر بسرعة وبملامح متناسقة. بتّ أخشى أن أقتلع من دائرة تعج بالحياة، أو أن يتوقف القلب فجأة عن النبض دون أن أكمل ما بدأته.

ذاكرة جارحة وحادة كنصل السيف تلامس وريد العنق، كل شيء في جسدي يتحرك بلا توقف، ولا يمكن السيطرة عليه، ذاكرتي هي السبب لأنها تسري بغزارة في جسدي وتعيش فيه وتعمل تلقائياً. يضج هذا العويل في كل مكان، كثغاء تيس الجبل، لكنّني أميّز ثغاء الماعز وأفكك رموز لغتها وخصوصاً أنت لأنك صاحبي زعتر. كنت لا تحب ساعة الصباح في الوادي، لأني أحضر متأخراً فتحتج وتطلق ثغاءً صاخباً يمتد في المدى، كأنّك تنادي أحداً ترك وادي الحنداج، تستجديه ألاّ يذهب بعيداً، لكل صيحة نوتة خاصة، حتى قطعان الماعز ترد لك الجواب، ربّما تفهمك ولا أعرف ماذا قالت لك عن معنى الغياب والعدم واللاوجود في لغة الماعز الخاصة، أم أنّها شكوى قطعان الماشية من التيه البشري الأخير، تقرأ فيك وفي صحبتنا الغريبة كل ما سيحدث، أو أنها تتوقع حدثاً ما أو نكبة حدثت أو ستحدث.

هذا الثغاء أيقظ في داخلي الرغبة في الهرولة، لا أعرف إلى أين، كنّا نسير في يوم الخروج وأنا أظن أننا نخرج لمساعدة مستغيث يصرخ على مسافة لانهائية، نسلك الطرقات ونصعد التلال ونقطع السهول ولكن لا نرى أو نسمع الأشياء نفسها.

كتلة بشرية هائلة تتحرّك بإيقاع جماعي سريع، ازدحام بلا معنى ونظرات تعصّب مجنونة من فرط التحريض والهيجان الذاتي، تتراءى خيالات في الأفق كلما اقتربت تختفي من وجوهها العيون وتظهر الرؤوس، لا تتناسب الأكتاف العريضة وتكوين الأجساد المنهكة، كلّها تترنّح من التعب، بعد منتصف الليل تخرج من مدخل حانة قذرة تعجّ بالسكارى.

دخلت هذا المشهد زعيماً يقود القطيع وأجول مع العنزات، ولكن حارسها الأمين هذه المرة لم يكن كلباً وفياً يتغندر وسط القطيع، بل كنت زعتراً، وبك أنت اكتملت طفولة الراعي السارح مع المواشي في بقعة ساحرة من الجليل تسمى مسار «حنداج». المنطقة الممتدة على تخوم الوادي المقابل لوادي «عوبا» لجهة هضبة «الهوتة» الذي تسكنه القبيلة. فيه كانت حورية أرضية تلوّح لي أسفل الوادي بمنديلها الأبيض. ومرة تسلّلت نزولاً بحذر وخفّة نحوها، لكن عندما وصلت لم أعثر عليها. تذكرت حينذاك وصية سيدنا المنطار. لن يعذرني من عاقبة ضياع الأرض، وإن لم أجدها سأبلى بلعنة الذاكرة الزائدة عن الحاجة، وحدها ذاكرتي تفيض بلا انقطاع أو انضباط، أعيش بلاء فوضى الذاكرة، ووحدها لم أخسرها بعد، رغم أني فقدت أشياء كثيرة في حياتي جراء الحرب.

لكن لن أتوقف عن البحث عنها ثانية، أفكار وخيالات وهلوسات كثيرة كانت تراودني وأنا أرعى العنزات وحدي. أحياناً أشعر بأمان وأنا أتحدث مع الظل، كنت أراك تهز رأسك كإشارة موافقة على كلامي وأحياناً أجدك متوتراً تحفر الأرض بقائمتيك وتنفض رأسك كي أسمع قرقعة الخرز المعلق برقبتك، أفهم من ذلك أنك أردتها إشارة خطر حتى لا أقترب من بستان الناطور الشرير الذي كان يلاحقني ثم يضربني مع أنّ العنزات لم تصل إلى الزرع.

أسميه الناطور الآدمي، إنه شخص دمث الأخلاق. ارتفعت درجة حساسيتي من كل شخص ألتقيه، أحاول أن أكتشف كيف ينظر إلى لاجئ مثلي، هل يكرهني؟ أم يشفق عليّ؟ هل هذا شعور كل الذين ألتقيهم في الناحية؟ الناطور الآدمي اكتشفت أن مشاعره ليست مجرد كلمات، يجالسني كصديق ويسألني عن فلسطين كثيراً، وكان يعاملني باحترام ومعاملة النّد للنّد، أو هكذا كنت أشعر، مع أن عمري عشر سنوات وعمره حوالى الأربعين. وأنا أرعى في أرض بور قريبة من الزرع، وكنت حريصاً على أن لا تقترب العنزات من هذا الزرع. فمرّ شاب من قرية «الشعيثية» وشتمني من بعيد. ولمّا اقترب سقت العنزات وهربت منه لكنّه ركض خلفي وضربني «بكدرة» من التراب على رأسي من الخلف، فوقعت أرضاً وكدت أغيب عن الوعي، وبدلاً من أن يسعفني تركني وذهب.

ازداد ولعي بالكتب بعد أن فقدت حياة الوادي، مع أنني لم أمكث في التعليم في «الكتّاب» سوى ثمانية أشهر، وقع بيدي كتابان ولا أعرف من أين؟ أحدهما كتاب صغير خطّه كبير وواضح عن الوضوء وكيفية الصلاة وفيه الأذان، فقرأته أكثر من مئة مرة حتى مللته، والآخر كتاب «أغاني شروقي» وغيرها من الأغاني الشعبية. أذكر مطلع أغنية «حوّل يا غنّام بات الليلة هين»، فلم يشفِ غليلي الطرب، حتى وأنا أردد الأغنية كان الكتابان دائماً معي في الرعي، عندما أكون وحيداً مع العنزات وبرفقتك وقريباً من بيوت القرية، أسلّي نفسي بأشياء كثيرة، ومنها أن أقرأ الأذان بصوت عالٍ محاولاً أن أنغّم صوتي مقلداً المؤذن، كم مرة كنت تشهر بزهو يا زعتر وتنتصب واقفاً، وترفع أذنيك إلى الأعلى في حالة إصغاء وخشوع وصمت.

يومذاك اقترب مني ظل طويل جداً، ثمّ وقف قربي يستمع إليّ دون أن أراه، ولما حانت مني التفاتة رأيته فوق رأسي يستمع إلى صوتي في الأذان، فخجلت منه كثيراً وخفت عندما رأيت وجهه يشبه الشيخ الجزائري الذي صادفني يوماً في وادي الحنداج. يوم كانت تجري المياه بغزارة في قعر الوادي الذي تغمره زهرة القندول الصفراء، وصابونة الراعي والبرقوق والصفير، وتكثر الأشجار المثمرة وأشجار الزيتون التي زرعتها واحدة من العائلات الجزائرية التي قاتلت الاحتلال الفرنسي للجزائر، وتصدت بشراسة للحملة الفرنسية ضد القبائل، فنفيت إلى بلاد الشام، حيث سكنت عائلات منها في القرى المحاذية لوادي الحنداج، ومنها عائلة «بو عمامة» ومعظمها من جبال جرجرة في منطقة «تيزي أوزو» الجزائرية.

من هذه العائلات الشيخ «بوعمامة» الهارب من الاحتلال الفرنسي والذي لبّى الله مرادي وبفضله ودعواته دخلت المدرسة، والآن يتبعني كظل في بلاد الغربة. له في كل استعمار حصة، يقطن وعائلته الوادي كابن أصيل، نتعلم منه سيرة جهاد القبائل ضد الاحتلال الفرنسي. لم أجده بعد دخول الغزاة إلى الوادي. هل أصبح لاجئاً مثلي؟ لكنّه قطع حبل تفكيري وتساؤلاتي وبادرني، بكل احترام وإعجاب، قائلاً هل تعرف القراءة؟ قلت له نعم، أنا أصبحت متعلّماً، فقال: وأنا لا أزال عند وعده أن أتعلم، وتحذير سيدنا المنطار بأن لا أترك فتاة الوادي الملائكية المرسلة من السماء.

لا أعرف لماذا يخاف الأولاد في الحي الشيخ الجزائري، منهم من كان يظن أنه يمتلك قوة سحرية غير مألوفة، وأنه صديق الجن المغربي. لم أخف منه مطلقاً، اصطحبني إلى داره، وعندما دخلت قال لي: عندي كتب، هل تحبّ أن تقرأها؟ فشعرت بسعادة غامرة.

back to top