بيت جدّي

نشر في 06-10-2018
آخر تحديث 06-10-2018 | 00:00
No Image Caption
جَدّتي حِكاية عُمر

مريم... بطاريات للراديو... الدكان القريب... كان وقت نومها...

أحفظ تمتمتها وجُمَلَهَا المبتورة من كثرة ترديدها كل يوم.. كل يوم..

تحديداً بعد دقات الساعة التاسعة مساءً..

وأسمع خطواتها الحثيثة المتجهة بنشاط شابة فتيّة إلى الخارج.. ثم دوران المفتاح في قفل الباب الداخلي المُطل على الدرجات الخمس..

يُقفل الباب الداخلي بالمفتاح عبثاً كل يوم، وتفتحه هي بإصرار وعناد كل يوم، وأحياناً بغضب، مواصلة السعي إلى باب الفناء الحديدي المطل على الشارع القديم.. تليها وقفتها الطويلة بالساعات بين باب الشارع الموارب وجدار البيت، موزعة الانتظار على قدمها اليمنى تارة، واليسرى تارة، أو تلقي بوهنها وجسدها على الجدار في انتظار وصبر إلى أن يتفقدها جدّي عبد الله، أو خادمتها ومرافقة عمرها الأمينة مُشرفة، أو أحد أبنائها، فيعيدها برفق إلى الداخل... وتُعاد الجُمل المبتورة للمرة الثانية لذات الأمسية في حوار بين طرفين، أحفظ منه دور المرأة العجوز عن ظهر قلب..

أربعة فصول تمر عليها طوال العام، لا يعيقها حرّ «جدة»، ولا يثنيها بردها، ولا يرد تحركها الحثيث نحو هدفها المنشود رائحة البحر النفّاذة القريبة من بيتنا، ولا الرطوبة الخانقة التي تجثم على جو حيّنا القريب من البحر أغلب أمسيات الصيف..

لحسن أو لسوء حظي كانت غرفتي في الدور الثاني تطل مباشرة على الباب المُهمل الذي تقف جدتي عنده كل مساء..

كل ليلة يُعاد نفس الحوار إذ لا تغيير ولا تبديل في الكلمات.. هي ذاتها نفس الجُمل المبتورة والتي يُكملها الطرف الآخر، وكلٌّ بحسب شخصيته ومزاجه وتقبّله، والأهم قُربه وبُعده منها..

جدّي عبد الله - زوجها - بصبره وتفهّمه وهو يأخذها من يدها إلى الداخل،

عمي سعد بحنوه الشديد عليها،

«مشرفة» التي تقاربها في العمر - مربيتي ومربية جميع أعمامي - بحنوها وصبرها وتفهمها لوضع جدتي،

ثم بقية أعمامي والذين نادراً ما يقومون بهذا الواجب لعدم سكنهم في نفس البيت..

اليوم عمي سعد هو من التقطها من عند الباب،

لمحته من نافذتي المُطلة على الشارع نازلاً مودعاً من سيارة أحد أصدقائه.. ملتحفاً بشال صوفي لفّه حول عنقه، وسترة أحكم إقفالها على جسده حالما نزل..

كانت مصابيح الشارع قد ألقت بضوئها على زجاج السيارة الخلفي مُبرزة صورة الملك عبد الله مُحتلة نصف الزجاج الكبير..

ويتكرر بلا ملل نفس الحوار الليلي، تبدأه هي باعتراض ثم باستسلام حين تشعر بعناد من سيعيدها إلى الداخل..

- مريم.

- مريم في الداخل يا أُمي.

- بطاريات للراديو.

- اشترت مريم البطاريات ووضعتها بنفسي في الراديو.

- الدكان القريب.

ولا يمل عمّي سعد الذي فشل حظه في زيجتين من مواصلة الحوار مع أُمه العجوز:

- صحيح يا أُمي مريم قد اشترت البطاريات من الدكان القريب، وعادت إلى البيت.

ويعلو أنينها في الصمت:

- كان وقت نومها.. أنا أيقظتها من نومها.

ويغض القلب الحنون طرفه عن رؤية الحسْرة المُؤلمة في عين أُمه، مُمسكاً بيديها الباردتين بين يديه، نافخاً عليها من أنفاسه لتدفأ:

- اشترت مريم البطاريات وعادت سريعاً إلى النوم، أنا غطيتها بنفسي.

ويئن الصوت المتهدِّج:

- كان وقت نومها.

- مريم بخير، أنا أودعتها الفراش بنفسي.

وتفلت المرأة يديها اللتين تشبّعتا بالدفء من يديه:

- كانت تشعر بالبرد، هي قالت لي.

- مريم دافئة في فراشها، أنا غطيتها بنفسي.

- مريم... - تنظر إلى السماء بصمت في محاولة للتذكّر ويداها تتحركان بحيْرة في الهواء، ترفعهما ثم تسقطهما بعجز على جانبيها وأنينها العاجز يُبكي الحجر -:

- ... البطاريات...

تخونها الكلمات، وتهزمها الذاكرة، فيجيب عمي بهمٍّ قديم:

- مريم بخير يا أمي.

بعد هذا التقرير الكاذب من لسان عمي سعد وقلبه الرحيم، يخيم صمت خفيف على جدتي جميلة الوجه والتقاطيع، موزعة خلاله نظراتها التائهة ما بين الشارع والباب الذي يُوصد أمامها كل يوم واليدين الممدودتين بصبر أمامها، فتستجيب لهما بدمعتين شحيحتين تظلان عالقتين بأعلى خدّها حتى يُودعها الفراش.

كان هذا الحوار يتكرر أغلب الليالي بين عمي وجدتي الثكلى.

وللعلم عمي سعد هو أصغر أبنائها، وعندما رحلتْ عمتي مريم وهي ابنة الثامنة كان هو في عَالَم الغيب!

بيت جدّي

بيت جدي الذي أعيش فيه جداً كبير، حتى أنني أعجز عن إحصاء كل غرفه من كثرة الإضافات التي زيدت عليه بعد موت عمتي مريم بوقت قصير... أجنحة كبيرة، وبنايات مستقلة.

كان البيت في البداية فيللا صغيرة عبارة عن بناء واحد من طابقين، تحوطه أرض شاسعة يتصدرها فناء البيت الرئيسي المليئة أطرافه بأحواض الورد الملون المتسلق شجره على السياج الحديدي الذي يعلو السور.. ثم ملاحق جانبية عديدة الغرف، وفي الخلف مزرعة نخيل كبيرة تجاورها تساوياً في الحجم حظيرة أبقار وأغنام ودواجن..

بعد موت عمتي مريم بعام واحد انتقل جدي بالعائلة إلى بيت آخر بهدف التوسعة وتغيير المكان.. أُلغيت الحظيرة، ونُقلت مزرعة النخيل إلى أرض ممتازة التربة مجاورة لمزرعة أخيه في شرق البلاد.. اختفت الملاحق بغرفها الكثيرة، وقامت ست «فلل» صغيرة وأنيقة أحاطت بالبناء الرئيسي القديم الذي زيد عليه هو الآخر دور ثالث وأجنحة، سكنها الأبناء لأعوام طوال ثم تركوها لعمار البنايات الجديدة حالما تزوجوا..

كان الانتقال أيضاً ضرورة لجدتي المفجوعة في فلذة كبدها، والتي كانت ردّة فِعلها إزاء موتها غريبة للجميع، إذ انطوت في حجرة بائسة من حجرات البيت لم تكن لأحد. كسَرَت مصباحها حتى لا يُضاء وعاشت في الظلام عاماً كاملاً مُهملة زوجها وبيتها وأبنائها..

قال جدي: لم أرَ دمعة واحدة في عينيها عند موتها ولا بعده، خفتُ عليها من الحجرة التي اختفت في ظلامها فخلعتُ بابها حتى لا تفعل في نفسها ما يسوء.

ربما فعل خيراً بالانتقال إلى سكن آخر إذ عادت جدتي إلى ممارسة حياتها الأولى بروتينها السابق، وكأن عمتي الراحلة كانت وديعة تركتها هناك في البيت القديم! وإن كسَا وجهها تعبير غريب وصفهُ بعض العارفين من حولها بالذهول، وبعض المؤمنين بأقدار الله.. بالتسليم.

اجتماعنا العائلي الأسبوعي

من الجمعة إلى الثلاثاء تكون صالة بيت جدي موحشة وكئيبة، وما يزيد في تلك الكآبة دقات ساعة الحائط المُسرفة في التوقيت، والتي كلما حاول أحد الأبناء استبدالها بأخرى، لا تدق مُعلنة عن الوقت في كل ساعة، تقيم جدتي الدنيا ولا تُقعدها حتى يُعيدها صاغراً إلى مكانها في الصالة، عدا يومي الأربعاء والخميس تغص بأبـي وببقية الأعمام وأبنائهم بعدما كبروا.. يختفي أثاث الصالة الكثير خلف أجسادهم، ويموج فضاء سقفها بأصواتهم تخالطها أصوات مذيعي النشرات الإخبارية في أغلب المحطات المرئية، بينما تحتل زوجات الأبناء جناح جدتي الكبير مُغلقات عليهن بابه..

أسمع صوت أبـي وأنا في غرفتي بالدور الثاني - دائماً يجعلني صوته العالي بالذات أنتقي بحرص للمرة العاشرة ما أرتدي أمامه وأمام الباقين قبل النزول - متحدثاً عن موجة البرد التي جلدت بسياطها البلاد هذا العام، وكم نفق من ماشية وبشر خاصة في الشمال، ثم يأخذهم الحديث إلى غلاء المؤن غير الطبيعي وشُحّ الدقيق من السوق، وجشع تجّاره إذ ظنّوه لعبة كلعبة الأسهم، ثم موقف أصحاب الأمر الإيجابـي لصدّ هذا الجشع بسحبه من التجار وتوزيعه على أصحاب المخابز فهم مَنْ سيُطعموننا الخبز..

ذكرت لي خادمتنا الحبشية المسؤولة عن جلب المؤن الأسبوعي إلى البيت، أن كيس الدقيق بعد أن كان بثلاثة وثلاثين ريالاً أصبح يُباع بمائة وعشرين!

عندما شحّ الخبز في فرنسا قبل قيام ثورتها، ثار الشعب الجائع مُطالباً الملكة المُرفّهة بإيجاده، فأجابت بسذاجة وجهل: فليأكلوا بسكويت1.

وكأن البسكويت يا «ماري» يُصنع من الماء والسكر فقط!

ينتقل المذيع إلى الأخبار الرياضية، فيزداد إيقاع أصوات أعمامي العالية ليصبح أكثر حماساً، ويجرهم الحديث إلى منتخب (الساجدين) المصري وكيف أن أحد أعمدة الفريق كشف قميصه أمام الجمهور وكاميرات التلفاز العالمية ليقرأ الجميع عبارته الجميلة: (تضامناً مع غزة)2.

وحصار غزّه الذي دام ثمانية أشهر.. وجوع الأطفال والكبار في غزة.. وإشعال مئات الشموع ليرى العالم حُزن غزة وليلها الكئيب.

أي أزمة ضمير هذه التي يعيشها العالم اليوم من غزة وما يحدث فيها؟

وإن كانت هناك مواقف عربية ومُسلمة تجاه ما يحدث فيها، إلا أنها مواقف خجولة بالكاد تُرى.

في المنتدى الفضائي الذي انتسبت إليه بالعضوية، كانت لي صحبة طيبة من فلسطين ومصر ولبنان وكل دول الخليج، ولمّا طال الحصار على إخواننا هناك غيّرت توقيعي فيه إلى بيت الشعر العربـي القديم مع اختلاف بسيط.

كان سؤالا للعَالَم الصامت إزاء الأحداث:

(يا ليلُ «غزة» متى غَدُه... أقيامُ السّاعةِ مَوْعدُهُ؟)

يشتعل بيت جدي بالناس والحركة يومي الأربعاء والخميس ثم يخمد بقية الأيام.

مُربيّة عمي سعد

هي الثانية عشرة بعد منتصف الليل..

كانت الدقات تأتيني تباعاً من صالة البيت المهجورة في ذلك الوقت،

ألازم حجرتي أغلب ساعات اليوم.. ليس فيها ما يبهج وإن كان كل ما فيها حميم، لكنها في النهاية ملاذي الوحيد.

آخر دقة ودّعت أذنيّ كانت تحمل الرقم 12.

حَمَل لنا أدب الغرب أسطورة (فتاة الرماد)3 التي تركّز مصيرها في ليلة ابن الملك الراقصة على سماع دقات الساعة الاثنتي عشرة، مُغيراً تماما مصير الفتاة عندما غفلت أذناها عن سماع تلك الدقات.

جميع أطفال العالم الثالث في القرن الحادي والعشرين يعرفون تلك الأسطورة خاصة بعدما صوّرها عالم ديزني الخيالي في حكاية كارتونية جميلة ومبهرة.

أسمع بوضوح دوران المفتاح في باب المدخل الخشبـي، ثم خطوات عمي سعد وهو عائد بأمه إلى جناحها وفراشها..

لِمَ تأخرت الليلة في الخارج رغم حضوره المبكر؟

في الصباح قالت لي مشرفة: ليلة الأمس كانت صعبة على الجميع.. تمسكت جدتك بالبقاء في الخارج، فبقي معها هو وجدك إلى منتصف الليل!

تلك هي جدتي.. ولو لخّصتُ لكم حكاية الحوار اليومي لكُتِبَتْ هنا أسطراً فقط، لا عُمراً بأكمله مصلوباً على باب حديدي يطل على شارع صغير.

المدهش لي أو كان من المدهش لي في السابق أنها منذ استيقاظها اليومي وحتى الساعة التاسعة مساء تكون امرأة طبيعية.. جَدَّة طيّبة، مُصليّة، تجترّ ما تجتره كل أنثى في سِنّها بعد زواج الأبناء الذين جاوروها في السكن إلى انتشار الأحفاد وترعرعهم تحت ناظريها، كل هذا تنظر إليه بصمت ورضا مُبهم غريب، ترافق يومها الطبيعي ذاك مربيتنا العجوز «مشرفة»..

كنت أناديها بجدتي مشرفة، ولمّا وقفت على أعتاب الجامعة، وأصبح لي صديقات يزرنني في بيتي، بدأت أتخفّف من اللقب وأناديها بماما مشرفة، بينما جدتي لأبـي أناديها بجدتي فقط.

كانت مشرفة خادمة آسيوية في مقتبل العمر، قَدِمتْ من جاكرتا بعقد وتصريح مثلها مثل الأخريات في بيت جدي، لكنها أصبحت مربيّة وأمّاً ثانية لعمي سعد الذي كان يوم المأساة ابن شهر ونصف فقط.

back to top