الفرنسيون والآداب الإيرانية

نشر في 04-10-2018
آخر تحديث 04-10-2018 | 00:10
 خليل علي حيدر رحل مؤخرا عن الحياة الثقافية عالم اللغويات الفرنسي العاشق للشعر الفارسي "غليبر لازار" أستاذ الدراسات الفارسية في جامعة السوربون المرموقة، وأحد أبرز مترجمي "رباعيات الخيام"، ترجمة يقول النقاد إنها تتميز بدقة كبيرة، رغم أن الجدل لا ينتهي حول كيفية ترجمة الرباعيات إلى مختلف اللغات ومنها العربية، وهل تكون حرفية أم تراعي الجماليات الشعرية، إلى جانب الخلاف الشديد حول عدد هذه الرباعيات، بل حتى حقيقة علاقتها بالشاعر عمر الخيام!

ويقول الكاتب الإيراني المعروف "أمير طاهري" عن "لازار" الذي عاش 98 عاماً، إنه قابله مرارا في فرنسا عبر صديق هو "مكسيم رودنسون"، المستشرق المعروف والدبلوماسي الإيراني "فريدون هويدا". كما كان لازار في الماضي على معرفة بالكاتب والأديب الإيراني البارز "صادق هدايت"، الذي انتحر في باريس (1903-1951) كما هو معروف، ويعد أبرز مؤسس للرواية الفارسية الحديثة.

ويقول "طاهري" إن "لازار" عمل عبر عقدين من الزمان في تدريب علماء الدراسات الإيرانية، واستقطبت محاضراته كل المهتمين بالثقافة الفارسية في إيران وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى وغيرها، كما أمضى د. لازار سنوات مديدة في إعداد القاموس الفرنسي- الفارسي، إلى جانب كتاب مهم في قواعد اللغة الفارسية.

ولدينا اليوم قواميس عربية- فارسية وافية ضافية من إعداد الباحثين العرب والإيرانيين تشمل، كما كتبنا في مقال سابق، ترجمة كاملة لقواميس كالمنجد والرائد.

وقام بعض أساتذة مصر الأفاضل وغيرها بتأليف العديد من الكتب في قواعد اللغة الفارسية باللغة العربية مثل "القواعد الأساسية لدراسة اللغة الفارسية" للدكتور إبراهيم أمين الشواربي، 1938، و"القواعد والنصوص الفارسية" للدكتور فؤاد عبدالمعطي الصياد، بيروت 1970، و"قواعد اللغة الفارسية" للدكتور عبدالنعيم محمد حسنين، القاهرة 1970، و"المرجع في قواعد اللغة الفارسية" للدكتور أحمد كمال الدين حلمي، الكويت 1986، حيث عمل د. حلمي أستاذاً للغة الفارسية بجامعتها بعض الوقت.

برز بين الفرنسيين أكثر من 350 مستشرقاً منذ بداية الاهتمام والتخصص في هذا المجال (نحو 310 من الإنكليز، 250 من الألمان، 111 من روسيا، نحو مئة من الولايات المتحدة)، ويقدر الباحث نجيب العقيقي في كتابه "المستشرقون"، إذا جمعنا أعدادهم بنحو 1900 وربما 2000 مستشرق، ممن أثروا الثقافة العربية والفارسية واللغات عموماً والثقافات في العالم الإسلامي ودول الشرق الآسيوية كلها.

بدأ اهتمام الفرنسيين باللغات الشرقية من عربية وعبرية وفارسية وغيرها منذ العصور الوسطى، حيث طلبت فرنسا الثقافة العربية في مدارس الأندلس وصقلية، ثم أنشأت لها منذ القرن الثاني عشر "مدرسة Reims بأمر البابا سلفستر الثاني، و"مدرسة شارتر" Chartres التي بلغت الذروة في عهد "برنار" أحد مواطنيها سنة 1117 وأخيه "تيوريك". كما أنشأت بقية من الجالية الإسلامية المغربية كانت على صلة باليونان والإسبان مدرسة الطب في "مونبلييه" عام 1220 Montpellier، "فطارت شهرتها وتوافد عليها طلاب الطب من كل صوب".

(د. العقيقي، ج1، ص138).

يقول الباحث المصري "وديع فلسطين" إن "نجيب العقيقي" من مواليد "كفر ذبيان" في جبل لبنان عام 1916، هاجر إلى مصر وسكن في "حي الفجالة" أول وصوله، وكان يختار فنادقها الرخيصة معظم الشعراء النازحين إلى مصر مكاناً لإقامتهم ومباشرة تجارتهم أو إصدار مطبوعاتهم، كمجلة الهلال، وكان حي الفجالة كذلك بيئة ثقافية، حيث شهد شارعها الذي تغير اسمه من شارع الفجالة إلى شارع "كامل صدقي باشا"، صدور "القاموس العصري" لأنطون إلياس (1877-1952)، أشهر قواميس اللغة الإنكليزية- العربية قبل "المورد"، وفيه أنشأ سلامة موسى (1887-1958) "المجلة الجديدة" وكان أول عمل التحق به نجيب العقيقي في مصر هو التدريس في مدرسة الجزويت، وهي أيضاً في حي الفجالة.

اشتهر "نجيب العقيقي"، يقول الأستاذ وديع فلسطين، بكتابه "المستشرقون"، ويضيف "ولو لم يكن له مؤلفات أخرى لكان حسبه هذا الكتاب فخراً ومجداً، وقد جاءت طبعته الأولى في مجلد واحد، والثانية في مجلدين، أما الثالثة فجاءت في ثلاثة مجلدات ضخمة، استطاع إنجازها بالاتصال الشخصي بدوائر الاستشراق في جميع دول العالم".

كما أنه "خاصم السيارات طوال إقامته في القاهرة إثياراً لرياضة المشي، بل لقد خاصم حتى الهاتف فلم يدخل داره، بل خاصم الصور الفوتوغرافية، فلم أصادف له صورة منشورة، ولا اختصني بإحدى صوره".

(وديع فلسطين يتحدث عن إعلام عصره، دار القلم- دمشق، 2003، ص271)

أما كتابه عن المستشرقين، يقول الأستاذ وديع فلسطين، "فالحقيقة التي لا يختلف عليها منصف هي أن نجيب العقيقي استطاع بعمله الموسوعي أن يمهد أمام الباحثين الجادين طرقاً سلطانية"، ويقول عن نهاية حياة العقيقي إن الباحث المصري اللبناني الأصل "عاش في تواضع الصمت، وانسحب من الدنيا بمثل هذا التواضع البليغ". ويضيف، "راجعتُ عددا من المجلات الأدبية في الفترة التالية لوفاته، فلم أقع فيها إلا على خبر موجز عن رحيله في مجلة "الأديب" اللبنانية ومجلة "الثقافة" المصرية. وكانت وفاته بداء القلب بعد نوبات متكررة في 24 ديسمبر 1981".

تواصل اهتمام الفرنسيين بالاستشراق واللغات الشرقية، وكان من رأي "كولبير" 16٨٣-16١٩) Colbert) رجل الدولة الفرنسي المعروف ومنشئ الحياة الاقتصادية فيها في زمن الملك لويس الرابع عشر، "إن مقتضيات الدولة باتت في حاجة إلى علماء يتقنون اللغات السامية كتابة، فألف بعثة عرفت بفتيان اللغات، بقرارات رسمية وقع عليها الملك"، يقول العقيقي ويضيف، "فتلعم فتيان فرنسا اللغات السامية في معاهد باريس، وفي مدرسة الشباب الملحقة بمعهد لويس الكبير على نفقة الملك، ثم أرسلوا إلى القسطنطينية- بالدولة العثمانية- فلما تضلعوا منها فيها- أي أتقنوا اللغات الشرقية- أُلحقوا بالسلك الدبلوماسي، أو انتُدبوا للترجمة، أو عُينوا أساتذة للغات السامية في فرنسا".

ثم أنشئت المدرسة الوطنية للغات الشرقية الحية في باريس عام 1795 Ecole Nationale des langues Orientales Vivantes. Paris للسفراء والقناصل والتجار إلى بلدان الشرق، ولما تولى العلامة "دي ساسي" تدريس العربية والفارسية فيها، أصبحت قبلة الطلاب يتقاطرون إليها من ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا والسويد وإسبانيا وفنلندا وغيرها، ومن أساتذتها الشرقيين ناصيف معلوف اللبناني (1823- 1865) وهي تضم اليوم أقساما للعربية الفصحى ولهجات المغرب والمشرق".

ويضيف العقيقي إن جامعة السوربون Sorbonne بدأت عام 1257 بهبة الأب "روبردي سوربون" كاهن القديس لويس، ثم جدد الكاردينال "ريشليو" بناءها عام 1626، وضمها نابليون إلى جامعة باريس سنة 1808. وقد عُني معهد الآداب فيها Institut de Litteratures بتاريخ الفن الإسلامي المغربي، وتاريخ الشعوب الشرقية ودراسات في اللغة والألسنية والحضارة العربية. ولم تقتصر فرنسا في تعليم اللغات السامية على مدارسها ومعاهدها وجامعاتها في فرنسا، بل أنشات مثيلاتها في الشرق الأدنى وشمالي إفريقيا وغيرهما، وزودت معظمها بالمكتبات والمطابع والعلماء، فأصدرت الكتب والمجلات بلغاتها وبالفرنسية، منها "معهد مصر" أسسه نابليون سنة 1879 والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية في القاهرة 1880، أنشأه "ماسبيرو" وكلية بورجاد في تونس 1841 Bourgade التي سميت لاحقا بمعهد الدراسات العليا في تونس سنة 1945، ومدرسة الآداب العالية في الجزائر سنة 1881 ومعهد الدراسات المغربية في الرباط، والمعهد الفرنسي في دمشق، والمعهد الفرنسي- الإيراني في طهران سنة 1948 Institut Franco - iranlen de Teheran. ويضيف العقيقي أن فرنسا أدخلت عام 1957 على برامجها في التعليم الثانوي مواد جديدة عن الحضارات الكبرى وتطور الشرق التاريخي، فأصاب العرب والإسلام منها حظٌّ موفور".

back to top