اللحظة الفاصلة!

نشر في 04-10-2018
آخر تحديث 04-10-2018 | 00:00
 مسفر الدوسري عندما تخلع الأيام ثيابها الصيفية، لترتدي ثيابها الشتوية، هناك لحظة عُري فاصلة بين اللحظتين، في لحظة العري هذه شيء ما ينتابني دائما، أشعر بتوتر غامض، تصبح أعصابي مشدودة، كأوتار كمنجة، تختلط مشاعري فجأة بشكل معقد، أنصت للصمت، ولا أسمع الكلام!

أصاب بالعمى في النور، وأبصر في الظلمة! أفقد حواسي في مكان، بينما هي في موضع آخر، أتخيَّل أغنية ما، في الوقت الذي أستمع إلى أغنية أخرى أصاب بعمى الأصوات، فأسمع صوتا غير الصوت الذي يخاطبني، حينها أسير كالمنوم مغناطيسيا، بينما أحس بأنني ريشة فقدت الجاذبية سيطرتها عليها أفقد قدرتي على الدهشة، كأنما الطبيعة تجري اختباراتها الموسمية على حواسي، وهي عادة ما تفعل ذلك في مثل هذا الوقت من العام.

عندما تتعرى الأيام لترتدي ثياب الشتاء، تقوم بنفض ما تبقى من غبار الصيف عن روحي، وغسل جسد مشاعري، وفتح شبابيك قلبي للهواء على مصاريعها معظم الوقت، وتخلع عن وجهها الستائر. شيء يشبه البلادة ينتابني مع وعيي الشديد بكل ما حولي. أشعر بتشقق في روحي يشبه ملامح أرض ماتت من اليباس، بينما روحي طرية جدا، أدرك حينها أن روحي لا تتشقق، بل تهيؤها الطبيعة للحظة القادمة، تقوم الطبيعة بحرثي، تقلّب الطبيعة طيني في لحظة العري الفاصلة هذه، كما يفعل الفلاح قبل البذر.

تجهز قلبي لسكنى العصافير والحمام والمزن المهاجرة، تقوم بنزع الأوراق اليابسة عن شجرة أحاسيسي، وتقتلع الأعشاب الصفراء من نبضي، تعيد صياغتي، تقيس حرارة أصابعي، وحرارة حبري، وقدرة أوراقي على البياض!

تتأكد الطبيعة من أن جميع أوديتي جاهزة لسريان الماء بين أحضانها، وأن لا حجر يقف عثرة في الطريق، تقوم بضبط أوتاري و"دوزنتها"، لتصبح صالحة للغناء على مقام موسيقي آخر، ذلك المقام يُعرف في موسيقى الفصول بمقام الشتاء، وهو مقام يتطلب الغناء فيه روحا دفيئة، وحنجرة لا يُغرقها المطر، ووشاحا يجيد الهمس قرب مسمعيك، أغاني هذا المقام شجية جداً، وحميمية جداً، وموجعة ربما جداً. وتشعل حطب الضلوع دون أن تستخدم ناراً!

تسيّل الأحلام مطرا أخضر يمر بالأحداق، لا ليستقر، لكن ليترك زهرة نديّة، ويرحل أغاني هذا المقام نداء احتياج يهيم في السماء، يصب مباشرة في القلوب الشتاء أغنية العشاق المفضلة، يستعذبون فيه البكاء تحت المطر، فيبكون كيفما يشاؤون دون أن تُفضح قلوبهم، يستعذبون مواقد النار التي تضج باللهب، لعلها تدفئ أطراف آمالهم، تتلمس أياديهم الدفء تحت الشالات الصوفية، لعلهم يجدون بعض آهاتهم التي أهملها أحبتهم في غفلة وفاء.

الشتاء يحيي جمر الاحتياج، ويضيء مشاعل الحنين،

ويزرع شجرة الصبر على حافة الهاوية. الشتاء منحنى الفصول الخطر، ويتطلب استعدادا استثنائيا، وها هي الطبيعة جهزتني الآن له، وعمّدتني بالبركات... دعواتي لكل العشاق بالعبور منه بسلام حب.

back to top