إسماعيل فهد زارع حياةٍ باقٍ!

نشر في 03-10-2018
آخر تحديث 03-10-2018 | 00:05
 طالب الرفاعي عزيزي إسماعيل، صباح الخير. أكتب عنك؟ لا داعي.

لا داعي، فقد فعل الكثير من زملائك وطلابك ومحبيك خلال الأيام السابقة، وأنا متأكد أنك تعلم ذلك. تعلم لأنك عشت معهم فعل الكتابة، وتعلم لأنك قرأت لهم الكثير، وتعلم لأنك زرعت فيهم بذرتك، بذرة الكتابة/ بذرة الحياة، ومؤكد أنها أينعت وأثمرت، وستبقى تثمر.

عزيزي إسماعيل، أذكر تلك الحادثة؛ كان يوم خميس في سبعينيات القرن الماضي، وكنتَ في عملك بإدارة الوسائل التعليمية التابعة لوزارة التربية. يومها زارك صديق، وأخبرك بأن أصدقاء يعدون لجلسة حوار ثقافي في البصرة مساءً، وأنهم طلبوا إليه ورجوه أن يعرض عليك فكرة السفر لحضور النقاش بينهم. وكعادتك في المحبة وقبول الدعوة المفتوحة على المغامرة، ركبت سيارتك "الموستنك" الحمراء، وركب الرجل إلى جانبك، وقصدتما البصرة. هناك أمضيتما مساء الأمسية، وفي صباح الجمعة أخبرك صديق آخر بأن هناك شباباً أدباء في بغداد أعدّوا مائدة حوار حول أحد أعمالك، وكلهم أمل أن تكون بينهم، وكعادتك في المحبة وقبول الدعوة المفتوحة على المغامرة، ركبت سيارتك وركب الرجل إلى جانبك، وقصدتما بغداد. هناك حضرت وشاركت في النقاش، ورحت باليوم التالي تذوب في كتب شارع أبي نواس، ناسياً كل ما يمت بصلة إلى وجودك الأسري، وأن هناك منْ جنَّ سائلاً عن غيابك. وفي مساء اليوم الرابع، اتصلت بك زوجتك بلهفتها عن طريق صديق، لتخبرها بأنك بخير، وأنك على وشك السفر إلى الشمال، حيث مجموعة من الأصدقاء يعدون لمؤتمر أدبي.

عزيزي إسماعيل، مضت بك تلك الرحلة من مكان إلى آخر، ومن صحب إلى آخر، وأنت كأطيب ما تكون؛ نفساً ومحبةً، بصوتك العالي وضحكتك الرنانة. وحين عدت إلى الكويت ربما بعد قرابة الشهر، وعاتبك مَن عاتب من الأسرة والأقارب والأصدقاء، جاء ردك ببساطة: "كيف لي أن أرد أصدقاء؟".

نعم، لسجيتك، ولخلقٍ أصيل في نفسك، ما كُنت لترد إنساناً يقصدك في أي وقت، وبأي مكان، ولأي أمر. وربما لهذا التمَّت حولك بساتين الأصدقاء حيثما حللت. ولأقل لك؛ كُنتَ عجيباً، تجلس مع الجميع، وتصادق الجميع، وتُشعر كل شخص بأنه الأقرب إلى نفسك، وبوعي أو دون وعي يفتح الآخر قلبه لك، وسرعان ما تنعقد صداقة صافية بينكما، وتبقى.

نعم يا صديقي، أنتَ زارع محبة، وزارع صداقة، وزارع صفاء وفكر وقصة ورواية ومسرح ونقد وأنس. ولأقل لك وأنا على يقين أنك تعرف هذا وتتجاهله كعادتك: إنك عاشق للزرع والزراعة، زارع لا يكل ولا يمل من نثر بذور محبته وصداقته ومعرفته في أرض الآخر، دون أن تسأل عن طبيعة أرضه، فأنت دائماً كنتَ متأكداً وواثقاً من أن بذرك سيثمر.

عزيزي إسماعيل، صباح الخير. أكتب عنك؟ لا داعي.

لا داعي، فأنت لا تحتاج لمن يكتب عنك! أنت شيخ الكتابة والكُتاب، ومؤكد أنك تذكر حين كتبت عنك كتاباً عام 2009، وحين انتهيت منه وناقشت معك العنوان (حياة الكتابة وكتابة الحياة) ابتسمت لي وقلت: "لا". وحين نظرت إليك قلت: ليكن "كتابة الحياة وحياة الكتابة"، وأدركت لحظتها أنك تقدِّم الكتابة على حياتك، وأنك تزن نفسك بميزان كتابة الحياة. ولأقل لك يا صديقي: لقد كتبتَ حياتك وحياة وطنك العربي كأجمل وأهم ما تكون الكتابة، فمنذ شبابك حين "كانت السماء زرقاء"، مروراً بـ"الطيور والأصدقاء"، ولحين صار "صندوق أسود آخر" وأنت تكتب نبض قلبك بين العراق والكويت ومصر ولبنان وسيرلانكا والفلبين وغيرها.

نعم يا صديقي، كتبت حياتك بما يحيط بك من بشرٍ وحجر وقضية، وكنتَ في كل ما تكتب مبدعاً مُحِبّاً مخلصاً لوجع الفقراء والمهمَّشين، وصديقاً لحلم يملأ قلوبهم يلوح على البعد "كخطوة في الحلم" دون أن يأتي.

عزيزي إسماعيل، هل أقول لكَ صباح الخير؟ هل أكتب عنك؟

لا داعي، فقد سبقتني وكتبتَ نفسك وكتبتنا، لذا سنبقى نقرؤك، وتبقى بيننا دائماً.

إسماعيل، لك رحمة الله الواسعة وغفرانه... آمين.

back to top