ليس وقت الماء

نشر في 29-09-2018
آخر تحديث 29-09-2018 | 00:00
No Image Caption
رفعت سماعة الهاتف واتصلت مسرعة على فريق إنقاذ الطفولة، أخذت رقمهــم في ما سبق من إعلاناتهــم التوعويـة المنتشـرة في الشـوراع،

- لو سمحت أريد أن أبلغ عن حالة.

ـ تفضلي اختي.

- أعتقد بوجود طفل ينام في العراء طوال الليل البارد.

- كيف اكتشفت ذلك؟

- آه مــاذا أقـول، كنت أسمع صوتـه طوال الأسـبوع وأظنه صـوت الحيوانات، حتى رأيته بأم عيني يبكي ويجـر نفسـه في فناء منزلهــم دون أن. . .

- ما علاقتك بهذا الطفل؟

- ابن جيراننا.

- أريد العنوان كاملاً وبيناتك أيضاً.

أسئلة تنتظر

بدأت ولا يزال حلمي البارحة لــم أغتسل مـن أضغاثه العالقة بي، أبحث عن موقع مشابه لما يخيم عليّ، كي أتمكن مـن إخراج كل الكلمات بجلسة واحدة وأنى لي ذلك؟! وفي الأماكــن المختلفـة التي اعتدت الكتابة فيهـا بقيت أسئلة الناس لم يجاوبـوا عليهـا، فضجـت الأماكـن، امتـلأت التموجـات المتكسـرة التي نبعت مـن كسر القلـوب.

أسهل ســؤال كان: صديق يسأل صديقه بينما كان الآخـر يمسك هاتفه بيـده وعقله منصرفـاً في هــذا المستطيل المستطير المضيء، قال له:

- ما السعادة؟

فانصرف صديقه قبل أن يجيبه!

الزوجـة تسأل زوجهـا الـذي يطيل النظر في غيرهـا مـن النساء.

- ما مقدار حبك لي؟

- . . .

ولا تزال تتكسر وهي تنتظر جوابه الـذي لن يجيبه أبداً، وهـو لا يعلم أن الله يسائله عــن قلـب هـذه المسكينة الـذي بين يديه.

وهنا سـؤال ضج بالمكان الـذي اخترت أن أجلس فيـه بهدوء في أحـد المقاهي الشهيرة الممتـدة على الساحل الطويـل، لا صـوت هنـا سوى للأمـواج وخطوات هادئة، الكل يمارس هوايته بهــدوء، البعض يرسـم، والآخـر يكتب أو يقـرأ، والذين لـم يلاقـوا مـن الحـب سـهامه بعــد أن اكتفوا بحديث العيون، وبعض الموسيقى الهادئة التي لا تكاد تسمع بـل تكمل المشهد الـذي يمكــن كل شخص مـن التخلص مــن الضغوط وينهي عمله بهدوء ويرحل.

منظـر غيـر مألـوف في مكان مألــوف، صـراخ وبكاء لأطفال يملأون المكان صخبـاً، وأفســدوا كل الهـدوء، اكتفى البعض بالنظر ثـم إكمال عملهـم، لـم يتحمل البعض كل هـذا الإزعـاج فتركــوا أماكنهــم بحثاً عـن مكان آخـر.

كان بين يدي أوراق البدايــة للرواية الجديـدة، أريــد أن أكتب بعـض النقاط المهمـة فيهـا وأحتسـي قهوتي وأنصرف، لملمـت أوراقي مستعدًا للرحيل، استغربت أن الأطفال أخذوا يضربــون الأرض ويزداد صراخهـم وبكاؤهـم وجلس الأب بينهم لا يسكتهم ولا يؤدبهم.

اختـرت البقاء والذهـاب لهـذا الأب والطلب منه إما أن يسكت أطفاله أو يجد لهم مكاناً آخر مناسباً لصخبهم، تقدمت إليهــم ولم ينتبه لي أحد منهـم أو يتردد عـن بكائه، حتى أن الأب لم ينظـر إلي، وضـعـت يـدي عليه مناديـاً:

- لو سمحت هلاّ تفضلت بإسكات أطفالك؟!

فنظر إلي بعينين شـاردتين وكأنه يأخذ وقته ليفهــم كلامي، فأجابني:

- أرجـوك أن تحاول معهـم! فلقد عجـزت حيلتـي لإسكاتهم، الآن خرجنا من هنا.

فأشار إلـى المستشـفى الـذي يقع في الخلـف على بعــد بضعـة مبانٍ .. فقلـت لـه:

- لا تقــل إنك تعني المستشفى، وإنمـا تشير إلـى مبنى البنك أو السوق أو ربما تعني المطعم لكن سرحت يدك قليلاً. .

فهز رأسه يائسًا وأخبرني بجملة خرست بعدها، قال:

- لقد ماتـت أمهــم الآن ولا أدري ماذا أفعل لهـم ليسـكتوا.

فجأة لـم يزعجني صـوت بكائهــم، بـل أصبح موسيقى متناغـمـة تهدئني، اخترت أن أجلس بينهــم أعانقهـم وأبكي معهـم، وتعلمـت منهـم درساً عظيماً به قررت أن أستفتح روايتي وأحاول أن أجيب ســؤالهم الذي صاروا يكررونه على أبيهــم.

- أين أمي ؟ أين امي؟

- متى يعود الميت إلى بيته؟

- هل ستحنّ هذه الأم الراحلة الآن على أولادها؟

- هل سيسمح لها بأن تترك مكانها في عالمها الذي أصبح منفصلاً عن هذا العالم.. أن تحضر لتحنو عليهم حتى يسكتوا؟!

لم يتوقفوا عن البكاء ولم أتوقف أنا عن التفكير!

روح الأم

سقط أحد الأبناء في اليمّ، فتملك الاضطراب روح الأم، وأخذ الطفل يضرب بيديه ورجليه في حيرة، حتى حمله اندفاع الماء، والطفل يتدحرج فوق سطحه. وما أن رأته الأم على هذه الحال، حتى تمنت أن تكون وسط التيار، ثم ألقت بنفسها وجذبته، وفي اللحظة نفسها ضمته، وسارعت بإرضاعه واحتضنته.

فيا من جعل الأمومة بابًا للشفقة، أدرك قاربي الغارق في لجة كرامتك.

وما أنا يا سيدي إلا كذاك الطفل الغارق أضرب بيدي ورجلي حتى تستنقذني.

يا صاحب الشفقة على فتيانك الغرقى فلتترفق بي لحظة تحفظ بها كرامتي من دوامة نفسي المتردية.

ولترحم قلبي المحترق الذي لم يطفئ ناره ماء غرقي!

نثر الروح

كان هناك رجل مجذوب عالي المقام، فقال له الخضر:

- أيها الرجل الكامل، هل لك أن تصاحبني؟

قال:

- إن أمري لا يستقيم معك، لقد شربت أنت من ماء الحياة كثيرًا، لتحافظ على روحك حية إلى الأبد، أما أنا فسأظل أقول ببذل الروح، ولا أستطيع الحياة بلا أحبة، لست مثلك أحافظ على الروح، بل أنني أنثر في كل يوم روحي.

أخاف الكتابة في الفجر

الاعتـراف بالخـوف بحد ذاته شجاعة، وأنـا لا أريـد أن أتفاخـر بالشجاعة في موقف كهـذا، لا أريـد أن أقول عـن روايتي وأحداثهـا إنها حقيقيـة، لا أريــد لهــم أن يحضـروا ليحدقــوا في المشـهد الـذي عاشـوه فعلاً بكل تفاصيله، سأضيع الأحـداث وألعـب مـع عقارب الزمـن أقدم المتأخر وأؤخـر المتقـدم، سأغير الأسـماء الحقيقيـة، وأخفي الملامـح الحقيقيـة للشـخوص، سأتجاوز سريعاً عنـد بعـض المواقف التي تتوقعون أنني سأطيل عندها، في النهاية أنا لا أملك قلباً مـن حديـد، مهما قلـت له كـن حجراً أو حديـداً، لن يكـون إلا ذاك القلـب المرهـف المتأثـر المرتجف لأي أســى.

أخاف الكتابة في الليل، حتى لا أنسى نفسي فيطول بي الأمر إلى ساعة متأخرة قريبة من الفجر، أترك الحاسب على الطاولة، ولا أطفئه، ضوضاء في الشارع، في الفندق، يطرقـون على الباب عشرات المرات، أغرس في العين السحرية، فأشاهد ظــلاً لأشخاص يركضـون ويختبئون، يسـتمرون بالطـرق، لا أعرهـم أي اهتمـام، أقول صغـاراً شــدهم بابي للعب وإثارة الضوضاء، والضوضاء في رأسي أكبر وأكثر إزعاجاً، لا أبالغ إن قلت إنني أبقى ماشياً لأكثـر مـن ساعتين في الغرفة وأنا أفكر محاولاً التخلص مــن هـذه الأفكار التي تطحن رأسي.

الأشياء في الفجر تظهـر علـى حقيقتهـا، الخيـوط الأولـى مـن النـور، وهي ترسم الضـــوء على وجوه مظلمـة، تبرز كل الأمـور، يفـور التنـور، تخرج مـن باطن الأرض كل المخلوقات المهشـمة لتبحـث عـن نافذة غيـر محكمـة الإغلاق، لينفـذوا، لا ينفذون إلا بسلطان، المرضـى الميــؤوس منهـم يتم إيقاظهــم في الفجـر، الأرض تخضـر أوراقهــا في الفجـر، الكـــون يرســم ابتســـامة قلقـة في الفجر مـن خـط الأفـق المستنير، ساعة حرب بين قوى الظـلام والنـور، ملائكـة الليـل يسلمون مفاتيحهــم ومهامهــم لملائكـة النهـار، يتحرك الجـنين في بطــن أمه، تنعقد النطفـة ويـؤذن لهـا لتنخلـق روحـاً، يستمر الطرق على الباب، ألا يتعبــون، ألم تنته ساعة اللعب؟

back to top