القدّيس

نشر في 29-09-2018
آخر تحديث 29-09-2018 | 00:00
No Image Caption
1

القديس، الجيل الخامس، الرابع من أكتوبر، التنين

هكذا يطلع شمساً، قبل أن تبدل الغيوم أحشاءها، وتمتزج بالسماء، متموجةً كعقدٍ فُرط وراحت حبات اللؤلؤ تتسابق لتحتضنها يدا الشتات بحنوٍّ كبير إلى الفراغ.

إنها الثالثة والربع قبيل الفجر الموعود، الموعد الذي يوزع ذاتهُ فيه على العالمِ كخريطةٍ لوجودٍ آخر أكثر شسوعاً. عليه الآن النهوض من غرفته، التي بات يستقل بها بعد وفاةِ جده الذي امتزجت روحه فيهِ، لذا لم يحس يوماً أنه غاب، فقد كان صوته ممتدّاً، يسمعه في الأصوات الأخرى؛ لأن كل ذاتٍ جميلة تدل عَليهِ، ولم يرَ أحداً قط إلا من مشكاةِ الجمال، لذلك أصبح أكثر الكائنات جمالاً، وأكثر الكائناتِ وصولاً إلى عشقهِ في التفاصيلِ وإن ارتدت أي سترةٍ، وتخفت خلفَ حدود الكلماتِ المصمَّدة.

كان صوته الممتد يزداد وجوداً فيربِّتُ على كتفيه عندما يقرأ في كتب جده القديمة، لكنها وليدة الآن، مع كل شغفٍ بالقراءةِ يجدد شبابها، ويكتب لها بقاءً في تفاصيل هذا البيت الصغير، وعلى نوافذه التي تتجاوز عدد غرفه بكثير، وكأنه يحكي عن دروبٍ تسعد بالمارين، وأبوابه الحديدية الثقيلة والموصدة بالصمت الذي ينثر جسده على الغرف، ويستمر طويلاً مصافحاً للأثاث الذي يحنُّ إلى قدومِ الزائرين، لكنهم لا يأتون إلا بعد أوانٍ طويل خِفافاً لا يملكون من الوقتِ إلا القليل..

في كل يومٍ كان القديسُ ناهضاً بعد منتصفِ الليل بساعةٍ ليجسَّ نفسه في الغرفة التي تصبح وجوداً واسعاً، وليشم رائحة المكان في قلبه، المكان الذي بات يعيش في نواحي جسدهِ الفسيحة؛ فلم يكن يباتُ يوماً في غير صدرهِ، ولم يجرب مرّة أن يعيش في عالمٍ سواهُ، مع أنه مسَّ كل عالمٍ بيديهِ الحانيتين ليبلغ في نفسهِ وجوداً آخر يفجِّر أنهار الحُب من راحتيه كتابةً، ومن لسانه عسلاً مُصفّى. إنها المساحة التي يخرج بها ثمار روحه للنفوس الأخرى؛ لتورق جناناً خضراً تسلب الناظرين الشعور بغيرها. لقد كانت زكاة نفسه أن يوزعها في كل عامٍ يولد فيه مرّة أخرى بمشاعر متوهجة يسمع عنها الكثير. تبدو القرية هادئة، مع كون ضجيجها ظاهراً، لمن خلّص نفسه من الضجيج ليستطيع سماع الأشياء من قعر حنينها حين تكون الكلمات نحيباً مستساغاً. يشاهدُ «القرية» من الشباك، وهو مغمض العينين قبل خروجه من ضفاف أكوام الكتب لأنه أراد بصدقٍ أن يراها بقلبهِ ويصغي لحقيقتها البرّاقة في نفسه العليِّة، بهذه الطريقة تمكّن بسهولةٍ من محادثة البيوت، والحشائش المتحلقة حول النخيل في حديقة المنزل الذي يعاني من هجر أصحابه المعتادين على أن يكون محطتهم في بعض أيام الإجازات، ليزوروا أصدقاءهم، وعائلاتهم بعد أن ينهكهم جهد الحياة إلى محكِّ النهاية، فيرتادون المكان ليستعيدوا شيئاً من عبقهم الطفولي الذي يزاول هوايته بالتأرجح في أرجوحةٍ لم تبارح منزلتها منذ أربعين عاماً، فإذا جاؤوا صبغ وجناتهم بالحمرة مشرئبّاً إلى وجوههم الحلوة.

خرج من الغرفةِ وعلى منكبه منشفة زرقاء كان ابتاعها بالأمس من متجر صغيرٍ لزوج عمته، وفي يده اليمنى كيس خشن وضع فيه قليلاً من السدر، والملح الخشن، وهدوماً سيرتديها بعد انتهائه من الاستحمام. كانت برودة الطقس تقرص خديهِ برفقٍ، وتلاعب خصلات شعره الطويل فعند تسع درجات مئوية يمكنك أن تحس بالجفاف الذي تحمله الرياح معها لتصافح الفراء السميكة، والصوف الذي يرتديه الشيوخ في ذهابهم للصلاةِ يتوقّون به «البرد» ثم يعودون لتناول القهوة مع التمر، سائقين أحاديث عن الماضي الذي لا يبارحهم قيد أنملة، إنهم كائناتٌ هابطةٌ من عمق طوف المنازل في الناحية العتيقة من القرية. لم يكن شيخاً، فما زال في ربيع فتوته وسيبقى إلا أن تدثره بهذا الغطاء الصوفي المسدل على كتفيه، وقبعته الروسية ما هي إلا امتداد لعيشه حياة جده الراحل منذ ثلاثة أعوام، وكان كلما فعل ذلك سمع أصواتاً لسلالتهِ من خلف القطن المغزول برفقٍ قبل عقدٍ مضى، ويرى في توزعها في الوجود كفسائل للنخلات السامقة أمامه.

سأخلع ملابسي، يبدو أن لقائي بقلبي قد حان أخيراً، هذه هي الطريقة الفريدة التي يتخذها لخطاب نفسه، ليستشعرها أكثر من ذي قبل في الأشياء، والعالم المركون في إحدى بُقع جسدهِ؛ أديماً يمطر بالحبِّ على الذوات التي يلتقيها. ذهب إلى الحمام الصغير، ذي البابين، الأول طويل كأبواب البيوت وربما تفوق عليها في طوله، ويأتي بعده باب قصير يبدو قزماً بالمقارنة مع الباب الكبير وكأنه قد بُني لأقزامٍ. وبينهما مساحة ضيقة وُضعت فيها مرآة صغيرة لطالما رجّل شعره أمامها، وراقب تشبُّث الماء بجسده في طريقه إلى مثواه الأخير، أن يكون شيئاً من ألقهِ وحسب.

فتح صنبور المرش برفقٍ، كما يفعل مع الحروف التي يلمسها في السبورةِ بعد كتابتها حتى لا تفقد بعض معالمها في هذا الحنو الكبير، لم يرد للصنبور أن يعاني عوامل التعرية، حتى يتلقى الماء منهمراً كمطرٍ، من شغفهِ وحبه إليه في كل يوم، ويبدو كطفلٍ يخرج للعراء ليتلقاه فلا يكون بينهما حجاب. يقبل بوجهه إلى الماء لينساب إلى جسده ويرى كيف تتجسد ذكرياته في مدى رؤيته العميقة وهو مغمض العينين. ويتأمل في النواحي التي كانت قفراً من المساكن قبل أربعين عاماً كيف أصبحت اليوم زاخرة بعشرات البيوت ذات الطراز المميز إبان انتقال الناس من بيوت الطين إلى البيوت «المسلّحة» ذات النتوء البارزة في جدرانها، والأبواب الحديدية التي لا تحمل إلا قليلاً من الأشكال، تبدو بمظهر واحد لكل المساكن، فهي كالتوائم وسكانها أيضاً إذ ينحى أغلبهم في سلوكٍ واحد، في التعامل البسيط، وحتى المشكلات المتوارثة. يغلق الصنبور بهدوء ويخفت صوت هذه الأفكار، إذ تشده رائحة السدر التي تملأ المكان، وتعطي شعره إبراقاً مُلفتاً. لقد اشترى جدي هذا المنزل مجاملةً لأخيه الأكبر، هذه الرواية التي يتداولها بعضنا، بينما كان حبه الشديد لمجاورة أخيه في القرية التي هجرها إبان دراسته السبب الحقيقي.

فبعد أن اشترى عمّي المنزل، طلب من جديّ أن يشتري المنزل المجاور له، غير أن منزل جدي أرحب مساحةً بمئتي متر تركت مكاناً كافياً لنمو حديقتين جميلتين في مقدمة البيت، منهما رأيتُ أول واحةٍ في قلبي، ومنهما كشفت للمدى تفاصيل مهمة في نفسي، عرّفتنا موقع كلٍّ منّا من الآخر. عليّ الخروج إلى الوشاحية قبل أن يستيقظ الآخرون، قال وهو يرتدي ثيابه ضاحكاً، وكأن لا شيء يعنيه؛ إنه سلوك وداعي لنفسه المشرنقة في نور يخرج منه إليه. أخرج بهذه العباءة البيضاء كغيمةٍ، وعلى رأسي فوق العمامةِ عقال ذهبي “مقصّب”، يفتح باباً ضخماً في مخيلتي لحياةٍ لم أكن لأعيها لولا أحاديث الكبار عنها، ثم أصبحت جزءاً منها لتبتلعها تفاصيلي وتكون شيئاً مني. إني أعيش أزماناً عديدة، زمني الطفولي، زمن فكرتي، زمن فعلي، وزمن ردود فعلي، بالرغم من أن قلبي خارج الزمن يتنقل بسهولةٍ بطريقةٍ آنية بين المشاعر والأماكن.

أبدو أكثر لطفاً في كل مرّة أراني فيها، ألأني أزيد من تعرفي إلى ذاتي في كل حينٍ أراها فيه؛ ليغيب وتبقى حاضرة فيما يجيء. يبدو هذا المنزل كبئرٍ تردد صوتي عندما أنطق كلمة ما، لذلك نمت أغصان هذه الهواية في فؤادي، فأخاطب الأبواب والجدران، حتى لا يصيبها صدأ الشعور، فتتجعد تاركةً فجوات في جسدها يحكي عن ألم الصمت، والفراق الطويل.

أحس بأني بهذهِ العباءة البيضاء الطويلة، ملاك يسعى على الأرض، وبثوبي الفضفاض يمكنني استشعار قماشه وهو ينطلق بي في الأرجاء كجناحي طائرٍ عميق جدّاً. إِنه التأمل الأخير، فلن أعود إلى ما كنتهُ مرّة أخرى، إِذ سيغدو كل شيءٍ ذاكرةً عندما أعود إلى هذهِ الحياة أكثر جمالاً وبألقٍ جديد، كلٌّ منا قد خرج من شرنقةٍ ابتداءً من رحمِ أمه، ومن بعد ذلك في أرحامٍ كثيرة تعاد فيها ولادته مِراراً حتى يبقى موجوداً، فلن يستطيع جسدٌ أن يبقي جلداً دون أن يغيره، ولا خليةٌ أن تبقى على ما هي عليه دون أن تتبدل، ويتشكل الفرق في أن هذه الرحلة تضيف لنا، فنتقدم، أو نعود متضعضعين إلى الوراء، إلى النهاية السريعة دون أي أثر يُذكر. عندما كنتُ أستيقظ صباحاً في كل يومٍ أستكشفُ جانباً جديداً في المنزل يشع بالجمال، ولذلك كنت واثقاً بأني أصبحتُ أكثر حسناً من اليوم السابق، وأكثر قرباً من جديّ الذي أشم رائحة عطرهِ تتغلغلُ في روحي برفقٍ، والتي شمّها كل من اقترب مني مع أني لم أبتع هذا العِطر قط، لقد كنتُ أشبهه كما كانوا يقولون لي، إلا أني لم أعد كذلك، فقد تجاوزت تلك المرحلة التي أشبه فيها الكائنات، وأصبح شبهي يُلقى عليها.

2

الوشاحية، قرية تمير، سنة 1240هـ تقريباً

بسورٍ مجمع من سعف النخل كانت ترتدي هذهِ الأرضُ حلّتها للناظرين، وفيها ثلاث عشرة نخلة، وبئر صغيرة، وبيتٌ نجديٌّ من الطين، وبركة تستقي منها الماشية، وتتوضأ منها عائلة تسكن هذا المنزل الضيّق جِدّاً ومع ذا يتسع لكل الحب الذي يسعى في الصباح والمساءِ إليه مستقلاً ومضطجعاً.

ثلاثةٌ، رابعهم بقرة نجدية ممشوقة نوعاً ما، وتظن لوهلةٍ أنها واهنة إلا أنها تدر من «الحليب» أضعاف ما تدرُّه أخواتها من البقر في المزارع القريبة، إذا رأيتها كأنك تسمعها تتحدثُ في كل مرّة تحلبُ لِتعبِّر عن الامتنان الذي تضخه بين السواعد التي تغلغلُ بشرتها بالأرضِ فتزهو بالخضرةِ في الأماكن الصغيرة لتعطي النفوسِ شيئاً من المؤونةِ على البقاءِ والانتشار. شيءٌ كهذا يزرع «ذاكرةً» في الأفئدةِ التي تخرج من الأفئدةِ الأولى في أجسادٍ أخرى تنتظرُ الربيعَ لتأتي أُكُلَها للأرضِ الرابية، قلوبٌ تتحرك في السواعدِ العاملة زهاءَ حُبٍّ بريء يعمرُ نفوساً بالربيعِ دهوراً طويلة، وحياةً ممتدة تزداد جمالاً.

بقرةٌ تُرعى وتَرعى في شأنِ الحرث، وسحب الماءِ من البئرِ للشربِ أحياناً، وييسر لها الجميع مساندين إذ يتعاون كُل الحاضرين على كُلفة الحياة اليسيرة عملاً وحصاداً.

هذهِ المزرعة ذات المساحة المحدودة زُرعت لتكون وقفاً لأضحياتٍ لجدتي التي قدم آباؤها الأوائل رؤساء لبيوت المال في سدير، وكانت بركات هذهِ «الأرض» الصّغيرة غامرةً للعائلةِ حينذاك بمصدرٍ وافرٍ إِذ كانت مغارستها الربع مما يُجنى من التمرِ، ويُؤدى بالباقي إلى تنفيذ الوصية التي استمرت موروثةً حتى الآن. هذهِ البركةُ ممدودةٌ من اليومِ الذي مُلِّكت فيها جدتي هذه البسطة الصغيرة؛ لتضمَ إليها العائلةَ دفئاً حصوراً يلهج بهِ «الناسُ» في المناطقِ القريبة، وخلتُ أنها ستكون مثلاً في الأفواهِ عن سلوكٍ نامٍ ومنتشر إِذ يوقفُ السديرون جزءاً من أموالهم لأنفسهم بعد الموتِ ولذراريهم إنعاماً حسناً، واتصالاً لا ينقطع مع الله.

back to top